ما بال ثوراتنا العربية تنقلب على أعقابها ولا تجزى الثائرين والمقهورين. تطفئ أنواراً وتشعل نيراناً. تهدم ظلماً وتبنى طغياناً، تسقط وثناً وتقيم أصناماً. ثوراتنا العربية لا تقيم العدل ولا تسقط الظلم، لكنها تداولهما بين الناس، تنزع الحكم من ظالم إلى أظلم، وتدفع مئات الأرواح ثمناً للحرية، وتدفع الألف لبيعها. آه منك ولك وعليك أيها الخليفة الثالث عثمان بن عفان، أكنت تعرف مثالب أمتك؟ وسوءات أبنائك؟ وعورات أحفادك؟ وأن مقتلك ظالماً أو مظلوماً لن يتحاب المسلمون من بعده أبداً؟ إن الصراع على السلطان والمال والوجاهة والريادة والأناقة والنساء والغذاء لا يتحاب الناس حولهم أبداً. وكذلك يفعلون!!
لا أعرف لماذا أستدعى دائماً فتنة الأوائل فى كل ثوراتنا العربية الظالمة منها والمظلومة، وكأنها كانت وجهين لهما، فكلما تقرأها من ناحية تساير مع الجميع ما يريدون.
خليفتنا الثالث عثمان بن عفان يتجاوز عمره الثمانين عاماً فى قليل. يحاصره ثوار مصر والبصرة فى دار الخلافة للمرة الثانية. الثائرون يطالبون الخليفة بعزل ولاته من بنى أمية، أهله وعزوته وثقته وعشيرته الذين طغوا فى البلاد، وأكثروا فى الفساد، وأغدقوا على أنفسهم من أموال المسلمين بغير وجه حق. الخليفة يتباطأ فى تلبية مطالب الثوار، فقد هرم الخليفة وكبر، فهان على نفسه وهان قدره على الناس. يخطئ الخليفة حين يستشير من بطانته مَن يطالب الثوار بعزلهم. هذا معاوية بن أبى سفيان واليه على الشام يعده بتجهيز جيش من خمسة آلاف مقاتل ليحتل المدينة ويطهرها من الثوار. وهذا ثانيهم مروان بن الحكم، وزيره وحامل أختامه، يمهر كتاباً إلى والى مصر يأمره بقتل الثوار إذا وصلوا إلى دياره. لا يعرف الثوار أن رسالة الإصلاح للوالى ممهورة بقتلهم، ولا يعرف الخليفة أن «معاوية» واليه على الشام، أضمر لنفسه أمر الخلافة، ولا يعرفان معاً أن «ابن الحكم»، كاتم أسراره فى قصره، قد أضمر لهما أمراً آخر. حين اقتحم الثوار بيت الخليفة لقتله، واعتلوا أسوار قصره، ودنت منه سيوفهم، عرف ساعتها أنهم قاتلوه، وأن الغوث من واليه قد ضل الطريق إليه، وأن خاتم الخلافة قد ضل الطريق عليه، وأن سيف الخيانة أنكى وأحد وأسن. الحكام دوماً بين ثوار فى الخارج وخونة فى الداخل. أو قُل بصراحة (حاكم وثائر وحرامى)، يتسلق الثوار سور بيت الخليفة، السيوف تقترب منه، يصرخ الخليفة (واغوثاه)، أيها الخليفة لا غوث لك ولا نجاة حين يخذلك عمالك وأهل ثقتك، فمنهم من يُجهز سرادق العزاء، وينتظر قميصك، وكرسى الخلافة، ومنهم من يفتح خزائن الملك ينهل منها ما يشاء، فلتصرخ يا عثمان من شرفة قصر الخلافة، موجوعاً من الثوار، ومن الذين خذلوك وضللوك (أيها الناس لا تقتلونى، فوالله لئن قتلتمونى لا تتحابوا بعدى أبداً، ولا تصلون جميعاً بعدى أبداً)، يقتل الخليفة ويسفك دمه، ولا يتحاب المسلمون، ولا يصلون يوماً. خليفتنا الجديد «ابن أبى طالب» يعتلى كرسى الخلافة، هيا يا سيدى أصلح ما أفسده ولاة بنى أمية، واعزل ولاة «عثمان» عن الولايات، واسترجع الأموال المنهوبة والثروات التى سرقها عماله من الأمصار، عندها يبدأ الخصام. يتنصل «طلحة» و«الزبير» من بيعة الخليفة الجديد ويتركان المدينة، يتقاتل المبشّرون بالجنة ويقتل بعضهم بعضاً ولا يتحابون. كل المسلمين منذ «عثمان» لم يتحابوا يوماً، ولن يصلوا كل الأيام. كل ثوراتنا العربية منذ قرون تدور وتلف سيرتها الأولى، حروفها منقوشة على قميص «عثمان»، تخطها سيوف أولاد العمومة، وتكتب نهايتها خناجر الخوارج. تاريخنا أيها الخليفة يبدأ بقاتل وينتهى عنده مقتول. يبدأ بظالم وينتهى عنده مظلوم. تاريخنا جاهل لا يتعلم لا يرى لا يسمع ولا يتكلم، ينتهى كما انتهى «معاوية»، ويبدأ من حيث بدأ «عثمان». تاريخنا العربى بلا رقم أو يوم أو عام أو عنوان. آه من أمة لا تسمع صراخها، ولا تتألم لأنينها، ولا ترحم حين تدوس بأقدامها ضعيفها. آه من أمة لا تعرف كيف تبنى ما تهدمه، ولا تعرف كيف تُسعد من تبكيه، ولا تعرف كيف تنصف من تظلمه. آه من أمة لا تحب أن تتحاب، ولا تسعد من تحب، ولا تعرف أن البناء حب وأن الهدم كره، وأن الله هو الحب، والشيطان هو الكره. آه من أمة يصلى فيها القاتل قبل القتل، ويُكبر على السيف قبل الذبح، ولا تعرف للحب طريقاً من يومك يا «عثمان»!!!!