الجميع تقريباً اتفق على أن الرئيس فى حديثه الأخير وهو يستعرض آفاقاً لمستقبل مصر كان غاضباً غضباً حقيقياً، وعندما تقف أمام رجل صادق وهو يعلن غضبه هكذا، ربما للمرة الأولى منذ أن عرفناه، هذا وحده يحتاج إلى توقف مهم، فالرئيس صادق فعلاً وهذا يربك الجميع فى الداخل والخارج، مرجع هذا الإرباك أن فى عالم السياسة وفى منصب كرئيس لدولة مصر كان الأسهل هو صياغة موقف يستند إلى حبكة يسهل التفاعل معها، والحبكة ليست درامية بقدر ما كان المتوقع أن تكون سياسية تفاعلية تضع فى اعتبارها ردود الفعل، إن لم يكن المستهدف منها بالأساس استدعاء ردود أفعال محددة يحتاجها ويريدها رئيس الدولة، لكن الرئيس «السيسى» قفز على كل ذلك المتداول فى عالم البروتوكول السياسى وجاء ليقف أمام الجميع بيديه، من دون أن ينفض عنهما الملفات العالقة التى يعمل عليها بنفسه هكذا بدا فعلاً!
لكن لماذا يرتبك البعض من صدق الرئيس؟، يرتبكون لأن الصدق ينقل الحقيقة من دون مساحيق، فالشعب المصرى استجاب لدعوته بالنزول يوم 26 يوليو 2013م وهو ينقل لهم أن الدولة المصرية تحت التهديد، وفاق الحضور يومها ثورتى يناير ويونيو، لرفضه أن تهدد دولته من إرهاب الداخل أو حصار الخارج، ليس خروجاً عن السياق عندما نذكر أن هناك من يجلس اليوم ليخضع سقف شعبية هذا اليوم للرئيس السيسى للمقارنة بشعبية اليوم، وهى مقارنة مشروعة من الناحية النظرية والسياسية، لكن لا بد لانعقادها من عدم إغفال جانب مهم، أن أحد جوانب غضب الرئيس أنه هو شخصياً قد عقد هذه المقارنة، ولم يلمس أن نتيجة اليوم تتفوق على سابقتها، وهذه أول صفحات الخطر فى هذه الغضبة الرئاسية، لأن التعبير عن ذلك الموقف برمته جاء بالجملة الصادمة بألا تسمعوا من أحد غيرى، فى هذه الجملة كان الرئيس يعود لمفردات القصة الأولية، فالاستدعاء والتكليف بقيادة الدولة كان طرف المعادلة الأولى والظاهر للجميع، واليوم هو يلقى بتساؤل الطرف الثانى إلى الشعب الذى يصيغ درجة التأييد، لماذا يتشكك البعض منه اليوم، وينصرفون لينقض آخرون منهم هذا اليقين، ربما لم يكن الحضور ليتصور أو يرغب فى الاطلاع على هذا النوع من الغضب فهذا أقرب لحديث النفس، أو ترتيبات الغرف المغلقة لإعداد العلاجات اللازمة لهذا الموقف، لكن الرئيس أربك الكافة بالفعل بصياغة هذا الصدق وبتلك المباشرة.
الخطير أيضاً فى هذا الغضب الذى لم يرغب صاحبه فى إخفائه أو التحايل عليه، ربما أتصوره من خلال المشهد الذى خرج للعلن، والرئيس يعلن أنه يعمل مع الحكومة لساعات تجاوزت العشر يومياً، وهنا يحضرنى نموذج المسئول الذى يذهب للرئيس وهو حامل لملف معبأ بالمشكلات، ولا يخرج حديث هذا المسئول عن كونه يعدد تعقيدات ملفه ويبحر فى ذلك ذهاباً وإياباً، ويتفنن ويتجهز لسرد كافة المطبات كإجابات بيروقراطية لعينة لا تنتهى أمام أى تساؤل رئاسى، وهو فى هذا يرتدى ثوب الخبير والعالم بالتفاصيل، والحريص على إبراز صدق زائف بأنه هكذا يعرض حقيقة الصورة على رئيس الدولة، وهذا النمط من المسئولين لدينا منهم الآلاف فى كل موقع حكومى، وبراعتهم فى استهلاك الساعات الطوال لتلك الاجتماعات من دون الخروج بفكرة لامعة أو توجه جديد، لا يضاهيها سوى احترافيتهم فى ضمان خروجهم سالمين من أمام الرئيس ودون تورط فى الدخول إلى حقل ألغام أو هكذا يظنون.
هذا هو الخطير فعلاً فيما ظهر من غضب الرئيس، فإن كان المشهد الحكومى على غير ذلك فما السر إذن فى عدم ظهور وزير واحد بحجم الطموح، ولماذا لم يظهر محافظ واحد كنجم حقيقى من ضمن 27 محافظاً، يجلسون جميعهم ليديروا دولاب العمل الحكومى والإدارى للدولة من دون أن تظهر لهم كرامة واحدة، وهذا المشهد هو الذى ينتظر المواطن المتململ أن يحظى بالتقييم الرئاسى، فإنجازات المرحلة ونجومها الحقيقيون من خارج هذا الدولاب العتيق، وهذا التفسير هو الترجمة المختصرة لأحاديث طويلة تلقى بأطروحات وأداءات هذا الدولاب خلف ظهرها، فلم يعد مقبولاً أنه حتى اليوم لم يتقدم جهاز واحد من أجهزة الدولة بخطة إصلاح حقيقية لنفسه أو للملف الذى يديره، لهذا يتشارك الشعب مع الرئيس تفاصيل غضبته إن كان قد فهم الرسالة على محملها الصحيح، لأن غموض دفاع الرئيس عن الحكومة جاء ليربك حروف الرسالة التى لم يكن ينقصها الصدق الساكن فى الملامح والحروف.