ما إن دلف البروفيسور ميشال ساندل إلى محاضرته بجامعة هارفارد حتى ألقى سؤالًا متعجِّلًا على طلاب الفلسفة السياسية (قِسم لا وجودَ له في جامعاتنا)، قال لهم: افترضوا معي أن سائقًا لعربة نقل وَجَدَ أن مكابِحَه (فرامل السيارة) مُعطَّلَة، وكان أمامَه طريقانِ؛ أحدُهما ينتهي بخمسة عُمّال بِنَاء (وكان يعلم أنه إذا اصطدم بهم فسيَقْتُلُهم جميعًا)، والآخر ينتهي بعامل واحد، فأيَّ الطريقَيْنِ سيختار، هل يقتُلُ الخمسةَ أم يقتلُ الرجلَ المنفرد؟!.
جميعهم باستثناء 3 طلاب وافقوا على قتلِ الرجل، ففي النهاية المبدأ بسيط: (قَتْلُ الواحدِ أهونُ من قتل الخمسة).
أشار البروفيسور إلى طالبة معارِضة لهذا المبدأ بأن تتكلم، قالت: إنه ليس من الصواب قتل واحد من أجل حماية خمسة، سيبقى القتل قتلًا!.
ابتسم الأستاذ، كان يريد إجابة كهذه، وقف طالبٌ عَضَّدَ إجابتها: إن هذا يجعل منطق المتطرفين سليمًا، إنّهم يقتلون أبرياءنا ظنًّا منهم أنهم يحافظون على الملايين من أبنائهم!.
وقف الطالب الثالث ذو الأصول الشرقية وقال بصراحة: إن قتل الواحد للحفاظ على الخمسة يبرر إبادة أجناس والقضاء على أعراق من أجل أعراق، يبرر الديكتاتورية والقمع!.
لكن الأستاذ عاجلهم بابتسامة: هل من أجل تجنُّبِ ذلك ستقتلون الخمسةَ وتُبقونَ الواحد؟!، ضحك الجمهور، وبدأت بوادر الحيرة تضرب البعض!، ولأنهم في هارفارد يدفعون للأساتذة جيدًا، فقد صاغ المثال بشكل جديد، قال لهم: ماذا لو أنكَ كنتَ على حافة جسر ورأيت قطارًا يتجه بسرعة إلى 5 رجال، ورأيتَ بجوارك رجلًا بدينًا، وعلمتَ بحساباتِكَ الدقيقةِ أنك إذا ألقيتَه من فوق الجسر فسوف يُسهِم في توقف القطار قُبيل الاصطدام بالرجال الخمسة، فهل ستفعلها؟!.
الأغلبية هذه المرة قالت: لا، لن نقتل إنسانًا متعمِّدِينَ لحماية غيره!، قال لهم: ماذا حل بمبدأ قتل واحد أفضل من قتل خمسة؟!. بدأت الحيرة تتسع!.
المهم الأستاذ لم يستسلم، ولأنهم ما زالوا يدفعون له جيدًا في هارفارد، فقد بدَّلَ المثال تمامًا، وقال: هذه المرة أنت جَرَّاحُ زراعةِ أعضاء، وجاءك خمسة مرضى على وشك الموت، كل واحدٍ يحتاج إلى عُضوٍ لزراعته، أحدهم يحتاج إلى كِلْيَة والآخر إلى قلب والثالث إلى رِئَةٍ والرابع إلى بنكرياس والخامس إلى كبد، ولاحظتَ أن هناك فتًى بحالة طيبة في الغرفة المجاورة جاء للكشف الدوريِّ؛ فهل تستغفِلُهُ وهو نائم وتأخذ منه الأعضاءَ الخمسةَ وتتركه للموت وتنقذهم؟!.
لم يرفع أحد يده موافقة على هذا المقترح، هذه المرة لا أحد على الإطلاق. ماذا حلَّ بمبدأ (خمسة أهم من واحد)؟!.
- نحن نميل إلى الحكم الذي يستند إلى النتيجة دون النظر إلى أخلاقية الفعل، في حالة إذا كان الأمر برُمَّتِه خارج إطارنا، بمعنى أكثر وضوحًا: إذا لم نكن متورِّطِين في الأمر، فالغاية الأخلاقية تبرر الوسيلة الانتهازيَّة!.
ونميل إلى الحكم الذي يستند إلى معيار الأخلاق إذا دخلنا في إطار الصورة!. نحن غير متأكدين إذا كان الأمر متعلقًا بنا، وناجحون في الحكم على الأمور من الخارج.
نحن مُفْتونَ وفلاسفةٌ ومحققونَ وخبراء إذا كانت الحادثة بعيدة عن ذواتنا. أما إذا تعلقت برقبتنا فنحن خائفون مترددون نعيد التفكير بعد التفكير ولا نقارف الفعل!.
أحكامُنا مشوِّشة للغاية إذن، لن نستطيع التجرُّد نهائيًّا، لن نصبح غيرنا أبدًا. أبدًا، لن يمكنك أن تحكم بنزاهة إذا كانت النتيجة حياتَك!، لا يمكننا أن ننسلخ عن أنفسنا. هذا خطأ شائع، وكذبة مُشتهِرَة. لا يمكننا هذا ببساطة!.
لذلك كان عبدالله المنيف الروائي السعودي عظيمًا جدًّا حين قال: (إن ما أجتهد للوصول إليه هو تقليل الفجوة بين ما أفعله وما أومن به)!.
فقط تقليل الفجوة.
ترى كم يُعطونَ لأستاذ هارفارد من أجل إثارة قضايا كهذه؟!.