المهنة: عامل نظافة.. والمهمة: تنظيف جيوب المارة بـ«كل سنة وأنت طيب يا باشا»
عمال النظافة يقومون بالإلحاح على المواطنين فى الشوارع لأخذ صدقة
مع اقتراب قطار «رمضان» من محطته الأخيرة، سيطرت على شوارع محافظتى القاهرة والجيزة، ظاهرة تسول عمال النظافة، حيث احتل بعضهم أماكن بعينها فى الشوارع الرئيسية، للتسول، بعد أن ربطوا أجولة بلاستيكية على أكتافهم، استعداداً لجمع الصدقات والزكاة، ولا مانع لديهم من زيادة جرعة الإلحاح على المارة فى الشوارع لإجبارهم على التصدق، الأمر الذى يسبب الضيق للبعض، فى حين يرى البعض الآخر أنهم الأولى بالصدقة والزكاة لانخفاض رواتبهم وقلة دخولهم وسوء ظروفهم المعيشية.
لا تمانع أسماء مصطفى، طبيبة صيدلانية، من التصدق على عمال النظافة، وترى أنهم الأحق بالصدقة مع غيرهم من الفقراء وضعاف الدخول، لكنها ترفض فكرة تحول كافة عمال النظافة إلى متسولين، ولجوئهم لارتداء بدلة «عامل النظافة» فى غير أعمالهم حتى تكون بمثابة رخصة لهم يستطيعون من خلالها التسول بشكل مُقنن، لدرجة جعلت بعض المتسولين والشحاذين الذين لا يعملون فى النظافة يرتدون تلك البدلة، حتى لا يعترضهم أفراد الأمن، ويحررون لهم محاضر تسول.
«سويلم»: «بنشتغل فى النظافة علشان الشحاتة.. وممنوع حد يدخل شارع زمايله».. و«سيد»: انضممت إلى المهنة بـ«واسطة» ومرتباتنا لا تتجاوز 300 جنيه
إلحاح بعض عمال النظافة، فى طلب الصدقات من الفتاة العشرينية، وصل بأحدهم إلى الطرق بقوة على زجاج سيارتها أثناء وقوفها أمام أحد المطاعم الشهيرة فى شارع التحرير بحى الدقى، ومع إصرارها على عدم إعطائه أو التجاوب معه، سبها بأبشع الشتائم، و«سب الدين لها» -حسب تعبيرها- ثم انصرف، وما كان منها إلا أن تحركت بسيارتها إلى الأمام لتبتعد عن المكان الذى يقف فيه.
لا بديل، من وجهة نظر الصيدلانية، لإصلاح تلك المنظومة سوى إعادة تأهيل هؤلاء العمال نفسياً ومادياً، حتى يتمكنوا من مسايرة الظروف المعيشية الصعبة، وتوفير وظائف مناسبة لهم ليتمكنوا من استثمار طاقتهم فيها، حتى لا يتحولوا إلى طاقة سلبية مقننة، من شأنها التدمير والاشتراك فى أعمال التخريب.
سوء الأحوال المعيشية، وارتفاع الأسعار، جعلته غير قادر على مواجهة أزماته الاقتصادية المتلاحقة، خصوصاً أنه يعول أسرة من أربعة أبناء وزوجة، لذا لم يجد أمامه بديلاً لتدبير احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومسكن، إلا العمل فى النظافة، قال محسن السيد: «غالبية عمال النظافة التابعين للمحافظات ومجالس المدن غير مُعينين، ويعملون بعقود شبه وهمية، ليست لها أى أهمية، وفى أى وقت يستطيع المسئول عن منظومة النظافة تسريحهم، ورواتبهم تتراوح بين 280 و450 جنيهاً، وهو أجر لا يكفى الأسرة (عيش حاف) وعلى الرغم من ذلك تُنسب إليهم أعمال شاقة، يضطرون فى النهاية لقبولها لأنه لا يوجد بديل آخر، لكن يوم ما تيجى لنا شغلانة تانية هنسيبها فوراً)».
«أسماء»: يحتاجون لـ«الصدقة» فعلاً.. وأرفض تحولهم إلى «متسولين».. ولا بديل عن إعادة تأهيلهم نفسياً ومادياً
345 جنيهاً، قيمة راتب الرجل الأربعينى، الذى يعمل عامل نظافة فى محافظة الجيزة منذ عامين، أشار إلى أنه وجد «أهل الخير» يتصدقون على زملائه بالمال والطعام وأحياناً الملابس، خصوصاً فى مواسم الخير مثل شهر رمضان وعيد الأضحى، فوقف بجوارهم، حتى يأخذ ما يُعينه على معيشة أسرته.
أضاف: «الشغل اللى بيتطلب مننا بنعمله، وبعد كده بنقعد فى أى حتة ضل، لو حد من الناس بتوع ربنا جه إدانا حاجة بناخدها، لو محدش جانا بنمشى بعد ما نريّح شوية».
يرى «محسن»، أنه وزملاءه أولى الناس بصدقات الأغنياء، مستشهداً بالآية القرآنية (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) فهو يعتبر نفسه فقيراً ومن المساكين الذين طالب الله عباده بالتصدق عليهم، لإطعام أسرته وكسوتها، وسداد 450 جنيهاً قيمة إيجار البدروم الذى يسكنونه فى شارع العشرين بحى فيصل.
ملابس مهلهلة، اختفت معالم لونها من حرقة الشمس، تُخبئ أجساماً نحيفة، تعلوها وجوهاً شاحبة، وقبعات تحمل أسماء الجهات التى يتبعها عمال النظافة الذين يحملون على أكتافهم حقائب بلاستيكية كبيرة.
فى شارع محيى الدين أبوالعز، بحى الدقى، جلس أحمد سويلم، أمام أحد فروع شركات المحمول، بجوار صندوق زبالة بلاستيكى متحرك، رفض الحديث إلينا فى البداية، متسائلاً: «عاوز تعرف الحاجات دى ليه؟»، ثم قال: «الرجل الذى ظل يعمل لمدة تزيد على 25 عاماً، فى مهنة (الفاعل) دون أن ينظر إليه أحد بعين الرحمة، وبعد ذلك يضطر للعمل فى مهنة عامل نظافة، مقابل 440 جنيهاً شهرياً، لا بد أن تتدخل الدولة وتنقذه من معاناته هو وأسرته، خصوصاً أن تلك المهنة، ليست لها أى مميزات، لا مادية ولا (مجتمعية)».
أضاف: «كل عمال النظافة بيشحتوا، وواخدين الشغلانة سبيل عشان مايتعملش لهم محاضر تسول أو شحاتة من الشرطة، ووقت ما الحكومة تتعرض لهم يبقوا شغالين فى مهنتهم الرسمية»، لم ينكر الرجل الستينى الذى يعيش مع زوجته وآخر أبنائه الذى يبلغ من العمر 14 عاماً، على عمال النظافة سعيهم إلى التسول فى الشوارع التى يعملون فيها، بحثاً عن باب خلفى للرزق، لكنه يرى أنه لا يحق لأى عامل نظافة التسول فى شارع لا يعمل فيه، أو التعدى على «منطقة» زملائه، مؤكداً أن المشرفين على عمال النظافة يرونهم يومياً أثناء وقوفهم لأخذ «اللى فيه النصيب».
محمود السيد، شاب عشرينى، من أبناء المنيا، جاء إلى القاهرة بصحبة خاله منذ أربع سنوات، بعد توقف العمل بمنطقة المحاجر فى المنيا، للعمل فى مهنة «الفاعل» بمصر، قال إنه لم يتوقع أن تتشابه حالة الضيق وكساد العمل فى القاهرة ومحافظته المنيا على حد سواء، فقد كان يجلس على رصيف العمال فى منطقة فيصل لمدة تزيد على الأسبوع، دون أن يطلبه أحد للعمل لديه، الأمر الذى جعله عبئاً إضافياً على خاله، إضافة لعدم تمكنه من الإنفاق على أسرته التى تركها فى المنيا، وتضم والدته وزوجته وطفلين، وأثناء قيامه بهدم أحد الجدران فى شقة موظف بمشروع النظافة فى محافظة الجيزة منذ عامين ونصف العام، توسط له فى الحصول على مهنة عامل نظافة، ومنذ ذلك الحين وراتبه لم يتجاوز 300 جنيه.
أضاف: «مفيش شاب بيحب يكسر نفسه، أو يمد إيده للخلق علشان يشحت، بس لو ماعملتش كده اللى ورايا مش هياكلوا ولا يشربوا»، يرى الشاب العشرينى أنه طاقة معطلة، لا يتم استخدامها أو استغلالها، لعدم أهمية العمل الذى يقوم به -من وجهة نظره- فى حين أن بإمكانه أن «يفحت فى الصخر»، ولديه مقومات جسدية تمكنه من ذلك، إلا أن المسئولين فى الدولة يرفضون منحه فرصة للعمل الحقيقى، لعدم وجود وظائف، ورفض التحاقه بالمشروعات الكبرى التى تنفذها الدولة لأنه لم يتعلم صنعة تؤهله لذلك.
يرى «محمود» أنه أصبح مصدر إزعاج لغالبية المارة فى الشوارع التى يعمل بها، نظراً لإلحاحه الشديد -وزملائه- على المارة طلباً للصدقة، بخلاف المشاجرات المتكررة مع الشحاذين الذين يحتلون أماكن وأرصفة بعينها، ويرفضون وقوفهم بجانبهم، والحل الوحيد -من وجهة نظره- إسناد أعمال قوية وحقيقية إلى عمال النظافة من فئة الشباب، أو من يقدر على العمل ويرغب فى ذلك، مقابل منحهم رواتب تكفيهم سؤال الناس، وتعينهم على المعيشة فى تلك الأجواء الاقتصادية الصعبة التى يزيد فيها لهيب الأسعار يوماً عن الآخر.