«الزهد الحقيقى هو خلو القلب مما خلت منه اليد».. عبارة سددها ابن عطاء الله السكندرى فى حكمه الخالدة قبل مئات السنين.. لذا فإن الزهد يريح الإنسان، ويجعله فى حل من الجرى وراء هموم الدنيا التى لا تنتهى والتى ما إن نصل إليها حتى نراها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.. وعندما يتأمل الإنسان حياته، كما تأملها كثيرون قبله، ويصل إليه الإدراك اليقينى بأنها دار عبور لحيوات أخرى يدرك يقيناً أن الصراع الذى يحياه كل منا ما هو إلا قبض ريح.. لا شىء يعدل راحة البال وتمام الصحة التى ينهكها السعى الحثيث حتى قضاء الأجل.. والسعى المذموم هنا لا علاقة له بالبحث عن الرزق، وإنما الذى له علاقة بالتقاتل وعدم توفير أى وقت لالتقاط أنفس الروح التى يضنيها البعد عن فهم الحقيقة.. حقيقة الخلود إلى السلام والطمأنينة.
قبل أيام، أجريت عملية جراحية هى الأولى فى حياتى دخلت على أثرها المستشفى وفقدت فيها الوعى لساعات.. لم أدر ما الذى حدث.. كنت مغيباً تماماً.. لا أنا فى الحياة الدنيا ولا فى حياة البرزخ بين الأرواح التى غادرت الدنيا بعد موتها.. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. بعد الإفاقة وبعد أن علمت بعدد الساعات التى قضيتها فى الحياة التى لم أدر أين كانت فيها روحى، سألت نفسى بعمق شديد: أين كنت وأين كانت روحى تهيم؟.. فالإنسان عندما ينتقل من الدنيا إلى الموت تذهب روحه إلى عالم البرزخ لتنضم إلى ملايين البشر الذين غادروا الدنيا قبله انتظاراً ليوم الحساب، ثم العبور إلى الحياة الآخرة الأبدية.. لم أجد إجابة لدرجة أننى سألت عدداً من الفقهاء عن مكان الروح الذى ذهبت إليه أثناء إجراء العملية.. هامت بى الأسئلة حول الحياة وكم هى سهلة يسيرة لأن يغادرها الإنسان بين ليلة وضحاها أو قبل أن يرتد إليك بصرك بين طرفة عين وأخرى.
لم أجد إجابة عن سؤالى الخالد، بيد أننى تأملت الدنيا للحظات، فرأيتها بعين الزاهد الذى خلت يده مما خلا منه قلبه، فوجدت الحياة منزوعة القيمة من دون عمل صالح وكلمة طيبة ومنع الشر وإيذاء الغير.. الحياة يجب أن تقى الناس فيها شرورك.. آثامك وأوزارك.. لتصل للمعادلة الشهيرة: إن لم تنفع، فلا تضر!
لا أدرى ما إذا كانت حالة الزهد التى عايشتها بعد خروجى من المشفى ستعاودنى مرة ثانية أم لا.. كما لا أدرى: هل هذه التأملات ستراودنى مرة أخرى أم لا.. لكن المؤكد أن الحياة قصيرة، وليس بها وقت لتعطيك ومضة من نور الحقيقة لتعرف أين تضع روحك قبل أن تفارق الحياة.. الحياة التى نلهث وراءها لنبحث عن الماء والريح، فنجد الماء سراباً بقيعة، والريح قبضناها قبضاً عسيراً أو يسيراً، ولا تصحو النفس إلا وتجد روحها فى عالم البرزخ، لتشاهد الحياة الدنيا من خلف زجاج، فتندم على كل لحظة قضتها فى غير منفعة الناس، أو منع إيذائهم!