(١)
يجلس أمامى فى هدوء دون أن يبدو عليه الاقتناع.. لم يقتنع أبداً بهؤلاء الشباب الذين يرتدون العوينات ويتحدثون بالإنجليزية أكثر من اللازم.. يرمقنى بنظرات متكررة بطرف عينه وأنا أرسم تلك الابتسامة الروتينية التى تعلمناها فى كلية الطب حين نستقبل مريضاً لنبعث فيه الاطمئنان.. لا يبدو أن تأثيرها يعمل جيداً معه.. لا بأس؛ لقد تعودت على هذا النوع من المرضى.
يجيب على أسئلتى فى ضيق شديد.. لا يرى داعياً لكل هذا الحوار.. إنه يفترض أن دورى هو أن أستخدم الاختراع المدعو «السماعة» فقط لأكتشف ما به من مرض.
يتساءل، مستنكراً، عن سبب طلبى أشعات وتحاليل لتشخيص مرضه.. أحاول أن أشرح له أننى أعمل طبيباً لا ساحراً... ينظر لى نظرة طويلة.. لا أبدو أمامه متمكناً فى مهنتى.. يبحث فى مظهرى عما يؤكد نظريته الأثيرة.. ليهز رأسه فى النهاية معبراً عن أسفه لما وصل إليه الحال فى هذا الوطن.. ثم ينصرف من أمامى!
لن يُجرى الفحوصات التى طلبتها.. إنه يؤمن أن المستوى الطبى فى مصر متدنٍّ للغاية.. أعرف ذلك جيداً.. ولكننى أديت عملى فقط!
سيبحث عن طبيب آخر ليؤكد إيمانه.. أو ربما سيعود إلى منزله وهو يلعن الطب والأطباء الذين لا يفقهون شيئاً!
السؤال الذى يتردد فى ذهنى دوماً: إذا كان البعض يؤمن أننا لا نفقه شيئاً.. فلماذا يطلبون منا النصيحة؟!
(٢)
لم تكن المرة الأولى التى يستدعوننى فيها إلى المستشفى الذى أعمل به بسبب حادث من هذا النوع.. إنها حوادث الطريق الصحراوى التى لا تنتهى.. حتى لو انتهينا نحن!
الكثير من البشر يملأون الاستقبال.. والأكثر من الدماء التى تغطى كل شىء.. ملابس ممزقة على أجساد مغطاة بالتراب تستلقى على أسرة الاستقبال ذات الغطاء الجلدى الداكن.. يبدو أن أمامنا الكثير من المعاناة هذه الليلة!
أنظر إلى المريض الأول الذى يستلقى على أحد الأسرة متألماً.. لا يبدو أن حالته خطيرة.. منظره يبدو مفزعاً ولكنها جروح سطحية كلها.. أحاول إقناع مرافقيه بالخروج من الغرفة لأقوم بالكشف عليه.. ولكنهم يرفضون بغضب لا أعرف سببه.. الكثير من الصياح مصحوب بالسباب على الأطباء والمستشفى بلا سبب!
أحاول إقناع البعض منهم أن قريبهم حالته مستقرة إلى حد كبير.. وأن هناك من يحتاج للرعاية أكثر منه الآن.. ولكن لا أحد يسمعنى.. إنهم يعرفون أكثر منى أنه فى خطر!
الأمر يتطور مع أفراد الأمن.. البعض قد قرر أن يفرض رأيه بذراعه.. أسمع أصوات تكسير لزجاج مصحوبة بالسباب.. إنها مشاجرة جديدة!
سينتهى الأمر كما يحدث كل مرة.. فقط سيكسرون المزيد من الزجاج.. ويلعنون الأطباء وإهمالهم!
أشعر بمهانة شديدة تجعل حلقى جافاً..
إذا كان الجميع يؤمن بجهلنا.. فلماذا يطلبون منا أن نسعفهم؟!
لماذا لا يجيبنى أحد؟!
(٣)
ينظر لواء الشرطة إلى ذلك الطبيب الشاب نظرة طويلة صارمة.. لا يبدو عليه الرضا من أدائه.. إنه لا يفقه شيئاً ككل الأطباء، فضلاً عن أنه لا يعير لوجوده أى انتباه.. بل ويجيب عن أسئلته دون إظهار أى نوع من الحفاوة لوجود رتبة مثله بالمستشفى!
«من يظن نفسه؟ إنه مجرد طبيب حقير».. هكذا حدث نفسه.. وهكذا قرر أن يثبت له!
تحرش لفظى من سيادته للطبيب الشاب، تطور إلى أن رفع اللواء يده ليضرب الطبيب كما اعتاد مع عساكره.. لكنه أصيب بصدمة حين رد له الطبيب الضربة فى وقتها!!
كيف يجرؤ ذلك الشاب؟.. كيف سولت له نفسه أنه مواطن يملك حقوقاً على رأسها ألا يضربه أحد وفى مكان عمله..
لقد أحاطت قوات الأمن بالمستشفى.. وتطور الشجار إلى محضر اعتداء.. انتهى بالصلح!
لقد تحول الطبيب الشاب إلى بطل.. ليس لأنه رد الإهانة لسيادة اللواء، لكن لأنه الطبيب الوحيد الذى قرر أن يستعيد حقه فى نفس الوقت!
لماذا يعتبرون ما فعله عملاً خارقاً؟!
ببساطة، لأنه طبيب.. والأطباء لا حق لهم!
(٤)
قضية إعلامية أخرى تملأ صفحات الجرائد وشاشات التلفاز.. لم يعد الأمر جديداً، بل صار أقرب إلى الملل..
لقد تم ضبط شبكة جديدة لتجارة الأعضاء.. العنوان وحده يثير الخيال.. البعض سيتخيل مشهد ذلك الطبيب الذى ينزع أحشاء مرضاه وهو يضحك ضحكات متقطعة شريرة.. ويمسكها مقطرة بالدماء بين يديه.. بينما تتدلى سيجارته من جانب شفتيه وهو يتفاوض مع المريض الذى سيبيعها له «ليفاصل» فى ثمنها!.. لا أحد سيحاول معرفة الحقيقة!
المشكلة أن الصورة مختلفة تماماً.. فتجارة الأعضاء لا دور للطبيب فيها تقريباً، والوضع كله هو نتيجة لدفن الرؤوس فى الرمال فى ظل غياب قانون زراعة الأعضاء الذى ننادى به منذ زمن!
لن أتحدث فى تفاصيل كثيرة لا داعى لها.. لكننى أود فقط أن يتم توضيح الأمر أكثر من ذلك.
الأمر لا يعنى أننى أدافع عن طبيب مذنب.. لكننى أرجو من الجميع أن يتم حساب المذنب «فقط»!!
(5)
يؤمنون بانعدام كفاءتنا وتسيّبنا وإهمالنا.. يرفضون أن نطالب بأدنى مستوى من حقوقنا.. ينعتوننا بانعدام الضمير والجشع طوال الوقت.. حتى بدل العدوى التى نتعرض لها يومياً، يرفضون أن نحصل عليه.. فأعضاء السلك القضائى أولى بالطبع!
لقد اعترفوا أخيراً بالعجز فى عدد الأطباء.. واعترفوا بنقص الإمكانيات التى يعملون بها.. ولكنهم بدلاً من أن يحاولوا تحسين الوضع، قرروا أن يزيدوه سوءاً كالمعتاد!
سيعدون قانوناً يلزم الأطباء بدفع ما تم إنفاقه عليهم حتى تخرجوا.. إن أرادوا السفر للخارج!!
لا أدرى لِمَ الأطباء تحديداً؟.. لِمَ لا يفعلها المهندسون والمحامون والإعلاميون؟!
لِمَ لا يفعلها خريجو الجامعات كلهم الذين يملأون المقاهى كل ليلة، بينما يبيت الطبيب ليلته فى استقبال مستشفاه انتظاراً لمن سيسبه أو سيعتدى عليه!
سينتهى الأمر باستقالات جماعية.. وسيزداد العجز أكثر من الآن.. وستزداد الاتهامات للأطباء بالجهل والجشع!
والسؤال الآن: إذا كانوا يرون أننا معدومو الكفاءة والضمير إلى هذه الدرجة دائماً.. لماذا يصرون على أن نبقى؟!
(6)
تنتظرون منى إجابة تروى فضولكم.. ولكننى أقف حائراً لا أملك ما أقول!
تعلمنا أن الطب رسالة.. ولكن لم يخبرونا أنه ينبغى أن نتحمل من أجل تلك الرسالة الفقر والجوع وضيق ذات اليد.
تعلمنا أنها مهمة مقدسة.. ولم نتعلم أن امتهان الكرامة من شروط قدسيتها.
تعلمنا أن نعالج الجميع بلا تمييز لدين أو عرق.. لكننا لم نعرف سبباً للتمييز ضدنا!
لا أعلم سبباً لإصرارهم على الاحتفاظ بنا، والشكوى من رداءة مستوانا لا تتوقف لحظة!!
لا أعرف مبرراً يمنع أن يمنحونا ما يليق بنا.. وأن يحفظوا لنا كرامتنا التى تنهار كل يوم.. أو أن يتركونا نرحل فى سلام!
أيها السادة.. لن ترضوا عنا أبداً لسبب لا أعلمه.. فلتتركونا نرحل.. أو اقتلونا.. وابحثوا فى الأوطان عمن يداويكم.