المصرى كائن إنسانى متميز، له خصائص ترسخت فى ذاته عبر تعلمه الزراعة، فالفلاح المصرى ينتظر الفيضان صابراً وبلا ملل.
وإذ يأتى الفيضان ثم ينحسر وقد استودع ما يحمله من طمى تربة تتلقفه بعد أن انتظرته صابرة وبلا ملل. ثم يلقى البذور وينتظر الحصاد صابراً أيضاً، لكنه لا يضيع وقته فيما بين الفيضان الحصاد فهو يكدح ويشقى ربما بسعادة بالغة لبناء معبد للآلهة أو قبر مهيب لفرعون واثقاً أن الآلهة تقدر له جهده وستمنحه رضاها فى قبره.
لكن هذا الصبر المتأصل لا يلبث فجأة أن يتفجر غضباً عندما يستشعر ظلماً خانعاً. ويذكر التاريخ كيف حاول الحكماء نصح الفرعون.
فإن استمع للنصيحة نجا.. وإن لم.. لم ينج. وكان بعض الفراعنة يتجاهلون النصح مطمئنين إلى تراكم الأوهام الخادعة التى يلقنها الكهنة من رجالهم للمصريين البسطاء ومنها مثلاً «أن من يقف ضد الفرعون لن يكون له قبر وترمى جثته فى الماء، ولكن المصرى يوجه لنفسه أحياناً سؤالاً مريراً، فما معنى أن تتضور جوعاً أنت وأبناؤك فى هذه الحياة ثم يكون لك قبر بعد أن تموت جائعاً؟ وتكون الإجابة انفجاراً مروعاً فى وجه الظلم. وقبل الانفجار الكبير فى نهاية الأسرة العاشرة وفق ما رواه الباحث موريه فى كتابه «النيل والمدينة المصرية - ص 256» أو بعد سقوط الدولة القديمة مباشرة وفق ما قاله سليم حسن - الجزء 1 ص 400»، لم يستمع الفرعون لما أسمته إحدى البرديات «تحذيرات كبير الكهنة» التى جاء فيها «ارتفعت وتيرة الغضب فى كل البلاد، سطا الناس واللصوص على الأغنياء وسلبوا أموالهم، وترك الفلاحون زراعة الأرض رغم مجىء الفيضان لفقدان الأمن» (بيدين - تاريخ النظم والقانون الخاص فى مصر» ويروى سليم حسن عن إحدى البرديات عبارات صاعقة «والذين كانوا يرتدون الكتان الجميل أصبحوا فى خرق بالية، والنساء اللائى كن على أسرة أزواجهن أصبحن ينمن على مضاجع خشنة.. دار العدالة خربت، وسرقت الوثائق التى تثبت الملكية ومجموعات القوانين المقدسة ألقيت على الأرض لتدوسها الأقدام».. ويحدد الدكتور شفيق شحاتة فى كتابه الرائع «تاريخ القانون المصرى - ص67»: «ضعف الملوك وزاد شأن المحيطين بهم وتمتعوا بالامتيازات وتم إعفاؤهم من الضرائب، ثم ازدادوا سطوة فأصبحوا هم الذين يفرضون الضرائب على سكان إقطاعاتهم». وأصدر بيبى الثانى مرسوماً يقول «تقرر الأجرة المستحقة على المستأجرين بصفة مؤبدة»، فأصبح الفلاح كما يقول د. شفيق شحاتة «متاعاً ملحقاً بالأرض»، وكانت ثورة عاتية استمرت حتى فرضت المبادئ الثلاثة المقدسة: ماعت (العدل والحق والاستقامة) هو (السلطة الرشيدة) سيا (الإدراك العاقل للأمور) وعادت مصر لتنهض من جديد تحت شعار يجب أن يظل أبدياً «ماعت» - «هو» - «سيا». وما إن يختل الالتزام بها أو بأى منها حتى تهب رياح منذرة بالغضب الشعبى.
ويتأرجح المسار المصرى عبر تموجات عديدة تستقيم ثم تتردى ثم تعود إلى استقامتها تحت الشعار ثلاثى الأبعاد. وتأتى مصر إلى زمن الظلم المملوكى فى ظل اقتسام السلطة بين إبراهيم بك ومراد بك، ونعود لنطالع ما كتبه الشيخ عبدالرحمن الجبرتى عين مصر الساهرة «وفى شهر جمادى الأولى سنة 1218هـ، أرادوا عمل فردة (ضريبة) وأشيع بين الناس ذلك فانزعجوا. هذا مع تزايد الكلف والمغارم حتى خربت الكثير من القرى وهجرها أهلها. ثم نقص النيل نقصاً فاحشاً، فانزعج الناس وازدحموا على مشترى الغلال وزاد سعرها ومنعوا الغنى من شراء أكثر من إردب ونصف، والفقير لا يأخذ إلا (ويبة) ويمنعون الكيل بعد ساعتين، وكان كبار رجال الدولة والأمراء يأخذون الغلال المقبلة بمراكبها قهراً عن أصحابها ويخزنونها لأنفسهم، وقلّ الخبز فى الأسواق والطوابين».. وأراد المماليك تلهية العامة عما هم فيه وتخفيف غضبهم فنادوا بإقامة صلاة الاستسقاء ويقول الجبرتى «وبادلهم المشايخ مكراً بمكر وأعلن أحد شيوخ الأزهر أن الشرع الشريف قد حدد شروط قبول صلاة الاستسقاء وهى رفع المظالم عن الرعية والتوبة عن الذنوب.
وذهب كبار المشايخ إلى إبراهيم بك (وكان الحاكم الفعلى) وعرضوا عليه الأمر فقال: الصلاة نعم، أما رفع المظالم فهذا أمر لا يمكن ولا يتصور ولا أقدر عليه، فصاحوا مهددين: إذاً سنهاجر جميعاً من مصر، فرد عليهم وأنا أهاجر معكم، وتتراكم حبات الغضب حتى تقترب من الاشتعال. وبعدها بأيام ركب حسين بك بجنوده إلى الحسينية فداهم منزل رئيس دراويش الشيخ البيومى واستولى على جميع ما فيه حتى الفراش ومصاغ النساء.. وانفجر الغضب وخرج العامة بالعصى والنبابيت ومعهم طبول وأغلقوا الحوانيت وتوجهوا إلى الأزهر وخطب فيهم الشيخ الدردير قائلاً: غداً نجمع أهالى الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما نهبوا بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم، وهنا فقط أدرك إبراهيم بك أن المصريين أخذوا المسألة جداً».. ويقول الجبرتى «فأرسل إبراهيم بك من طرفه سليم أغا مستحفظان ومحمد كتخدا أرناؤوط فذهبا للشيخ الدردير وتكلما معه وخافا من تضاعف الحال وقالا له: تكتب قائمة بالمنهوبات ونأتى بها جميعاً لك محل ما تكون، واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفا. لكن الشيخ الدردير إذ عاد إلى قادة الجموع المحتشدة التى تزداد تدفقاً أقنعوه بأن هذه الحشود لن تنصرف بمجرد إعادة منهوبات بيت رئيس الدراويش. فركب الدردير وخلفه حشود لم يتخيلها أحد من قبل وأصر هو والجموع على ضرورة إحضار حسين بك ومحاسبته.. وأتوا به». ويصف «الجبرتى» محاولة إبراهيم بك إرضاء الجماهير بصياح فى وجه حسين بك ويقول «وظل إبراهيم بك يعنفه ويلومه أمام الناس وقال له عيب يا بك أنك تنهب أموال متولى الدراويش».. وأدرك حسين بك أن مراد الماكر قد يجعله صيداً لإرضاء غضب الجماهير.. فصاح أمام الجميع «يا مراد بك كلنا نهابون.. أنت تنهب وأنا أنهب»، وانفض المجلس على ذلك وعاد الدردير بحشوده إلى الأزهر ليلحق به هناك سليم أغا مستحفظان ومحمد كتخدا وصاح الدردير فى وجوههم «كلكم نهابون»، فاسترضوه وأحضروا مصحفاً وأقسموا عليه بأن يكفوا عن المظالم.
ويختم «الجبرتى» روايته فى سخط «وبردت المسألة».. لكن الغضب الشعبى استمر بقيادة الشيخ عمر مكرم.
مطالباً هذه المرة بعزل الوالى معلنين بذلك تمردهم على السلطان العثمانى الذى أرسله لمصر.