دائماً ما يلح علىّ التعبير الأدبى الرفيع: «المتشائل»، للكاتب الفلسطينى «أميل حبيبى»، وهى كلمة منحوتة من كلمتين هما: المتشائم والمتفائل.. وهى الحالة التى تنطبق علىّ تماماً كلما تأملت حال البلد.
لن أتحدث الآن عما يدفعنى للتشاؤم، ففى قلب كل الأزمات التى تحيط بنا أجد مؤسستين تحاربان شبح «سقوط الدولة»، وتقودان عملية التنمية وتطهير مصر من الفساد.. وكل مؤسسة منهما تخوض حرباً شرسة فى صمت، ودون أن تنتظر ثناء أو تكريماً من أحد: «إنه الواجب».
المؤسسة العسكرية بكل رصيدها من الاحترام فى قلوب المصريين، بشهدائها وانضباطها ودورها «الحساس» فى الحرب على الإرهاب، وحماية تراب البلد وأمنه القومى.. أما المؤسسة الثانية فهى «هيئة الرقابة الإدارية» بأدائها الرفيع ويقظتها الدائمة وحربها على الفساد.
عادة تكون تلك المؤسسات «مغلقة» لا نعرف الكثير عن أسلوب إدارتها، فكل ما يدور بداخلها «أسرار» مختومة بشعار «سرى للغاية».. لكن الإعلامى «أسامة كمال» حقق انفراداً إعلامياً فى إطلالته الأولى على قناة DMC، لندخل معه أروقة «الرقابة الإدارية» من خلال لقاء مطول مع اللواء «محمد عرفان» رئيس هيئة الرقابة الإدارية!.
بوجه هادئ وكلمات محسوبة بدقة ونبرة واثقة، قال اللواء «عرفان»: «كانت هناك واقعة أو اثنتان فى السنوات الماضية لفساد داخل الرقابة الإدارية».. وأضاف أن ضابط الرقابة الإدارية يرتدى درعاً مقاوماً للفساد، قائلاً: «يجب أن يكون معقماً ضد الفساد».. منتهى الشفافية أن تسمع تلك المعلومات من رئيس أهم جهاز رقابى فى مصر.
وكشف اللواء «عرفان» عن أن الهيئة تراقب ما تنفقه «الهيئة الهندسية للقوات المسلحة» على المشروعات التى تنفذها، (لأنها مشروعات مدنية بالدولة، ولا مشكلة على الإطلاق بهذا الأمر).. ومع تدفق الحوار تكتشف أن «الرقابة الإدارية» تراقب رجالها، وتواجه الفساد المالى والأداء الإدارى المترهل فى الدولة.
حتى المشروعات القومية الكبرى بالدولة تتولى الهيئة متابعة ما يتم تنفيذه من إنفاق للمال العام، ومدى الجدوى من التنفيذ ومراحل التنفيذ المتعاقبة، وترشيد النفقات من عدمه.
تستطيع -إذاً- أن تتفاءل، وأن تقول: «الوضع تحت السيطرة»، خاصة بعد الضربات الموجعة التى وجهتها الهيئة لأباطرة الفساد فى مصر، وإعادتها لنحو 320 مليون جنيه من أموال الشعب، خلال الأشهر الأخيرة.. لكن إذا نظرت للعديد من مؤسسات الدولة أو حتى بعض الوزارات ستكتشف أن للفساد وجهاً آخر، وأعنى به «سوء إدارة المال العام»!.
إنها السمة الغالبة لقيادات تم اختيارها فى مرحلة سياسية «عائمة وضبابية»، إما لإقصاء رموز عهد «مبارك» أو لتصفية رجال «مرسى».. فكانت النتيجة أن لدينا قيادات تحترف «التخريب» وإعدام الكفاءات، والاستحواذ على «المزايا والمنح».. واستغلال عمليات «المناقصات والمزايدات» للتربح بطرق ملتوية وغير مشروعة.
رئيس هيئة الرقابة الإدارية قال إن الإصلاح الإدارى ضرورة لمواجهة الفساد والنهوض بالدولة.. وتلك هى المهمة المستحيلة، طالما أننا لا نحاكم «وزيراً» أو «رئيس مجلس إدارة» بتهمة «الإهمال» فلن يتم أى إصلاح إدارى.. ولنتذكر قضية «فساد القمح» التى دفنت وتم التعتيم عليها بعد إقالة «خالد حنفى»!.
حتى داخل الوسط الإعلامى هناك ممارسات فاسدة، من «ماسبيرو» إلى المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة، وللأسف يتم تحصينها بقوة «شعبية الشخصيات العامة»!.
قطاع الإعلام (مرئى ومقروء) منهار بالكامل، منظومة الصحة فى حالة موت إكلينيكى: (قارن قصر العينى بمستشفى الجلاء العسكرى)، التعليم: حدث ولا حرج إنه حالة مستعصية من الجهل وإشاعة التخلف العقلى.. إلخ وقائع الإهمال الإدارى التى غرقت فيها الدولة.
إن كانت مهمة «الإصلاح الإدارى» تحتاج إلى سن قوانين عاجلة لمعاونة الأجهزة الرقابية فى هذه المهمة الصعبة فلابد أن يتحرك «مجلس النواب».. لأن «قوت الغلابة» أصبح فى «جيوب القيادات»!.
وحين يقول اللواء «عرفان»: «يجب على كل مؤسسات الدولة الاستعانة بالكفاءة وليس بالأقدمية، لأنهم سيجدون فارقاً كبيراً فى الأداء وقانون الخدمة المدنية الجديد يسمح بذلك، ومثال الأقدمية لم ينتج إلا فساداً».. يجب أن نسأل: ما معايير الكفاءة ومن الذى يحددها.. فى بلد يستبدل «الأكفاء» بـ«أهل الثقة»؟
إطلالة اللواء «عرفان» وأداء «الرقابة الإدارية» يدعو للتفاؤل.. لكن أوضاع البلد بكل أسف تجعلنى أعود لـ«حزب المتشائلين».