لم يبالغ جوبلز عندما قالها: «عندما أسمع كلمة مثقف أتحسس مسدسى»، فقد علمته تجربته فى الحزب النازى أن الثقافة والتنوير هما العدوان الطبيعيان للتطرف والعنصرية وكراهية الآخر، لذا عملت كل المؤسسات الفاشية ذات الطابع العنصرى على استبعاد المثقفين الأحرار من كل الفعاليات المتصلة بالعمل العام، ومن الوجود فى القرارات المصيرية الخاصة برسم طرق البناء، خاصة ما تعلق منها بالإنسان ومجالات الحرية التى يجب أن تتاح له لكى يتمكن من الإسهام فى صنع الحضارة والدفع فى طريق التقدم والتنمية.
هل هى صدفة أن يُستبعد المثقفون تماماً من اللجنة الموكل إليها صياغة دستور مصر.. لا فنانين (سوى عضو من اتحاد النقابات).. ولا كتّاب ولا أدباء.. ولا ناشرين ولا مفكرين.. لا مجلس أعلى للثقافة.. ولا اتحاد للكتّاب ولا جماعات مجتمع مدنى مهمومة بالشأن الثقافى.. والأدهى من ذلك أن الجميع تواطأ على هذا الاستبعاد البغيض.. جماعات التطرف الدينى وجماعات المعارضة على حد سواء.. انشغل الجميع بالمغالبة ومحاولة وقفها ولم ينتبه أحد إلى استبعاد أهم مكونات الشخصية المصرية.. ولم لا والمرشح الرئاسى يفتخر فى تصريح علنى أنه لا يستمع إلى الأغانى ولا يتذوقها.. ولم يقل لنا كيف يتمكن من هذا فى فضاء يمتلئ فناً وغناءً.. ولم يعن له هذا شيئاً.. ولكنه يعنى لنا كل شىء.. يعنى أن المحروم من نعمة تذوق الفن لم يدخل بعد «حضانة» الإنسانية، ولم يسجّل -بعد- كروح خصها الله بالتسامى فوق الغرائز الحيوانية.. روح لا يصقلها إلا التعرض للفن والثقافة والشعر لكى يليق بها أن تلتحق بركب الحياة الحرة بعد عصور من العبودية والطغيان.
ما يحدث من «مغالبة» فى لجنة إعداد دستور مصر هو رسالة واضحة عن شكل القادمين الجدد وعن حجم المساحيق التى يحاولون الآن أن يغطوا بها وجوههم القبيحة وعن سمك الأقنعة التى يريدون بها خداع هذا الشعب العظيم المحب للحياة والحرية والفن منذ فجر الإنسانية.. والذى عرف الله الواحد قبل الجميع وأدرك جمال الكون وتكامله وأبدع فى التعبير عنه محبة فى الله وفى الناس.. إن ضيّقى الأفق وأساطين الجهل وكبار المنافقين والفسقة المتسربلين بالدين الحنيف لن يُفلحوا أبداً فى سوْق هذا الشعب إلى صحرائهم المقفرة.. الخالية من كل مظاهر الفن والثقافة والحياة.. فليصنعوا «دستورهم» خالياً من الروح.. وسوف يتمكن الشعب من إعلاء «روحه» العظيمة فوق الجميع.. هذا هو درس التاريخ الذى لا يريدون قراءته.