مع بداية العام المائة لصدور وعد بلفور البريطانى لليهود والصهيونية لإقامة «مقام قومى» للشعب اليهودى فى فلسطين تبدو المصالح والسياسات والآليات بين الصهاينة واليهود قد بلغت مستوى التصادم والتطاحن الذى أصبح يضر بالمصالح اليهودية فى الشرق الأوسط والعالم والنبوءة اليهودية ذاتها.
صدرت عن وزارة الخارجية البريطانية فى الثانى من فبراير 1917 وثيقة تحمل النص الآتى: «عزيزى اللورد روتشيلد.. يسرنى جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالى الذى ينطوى على العطف على أمانى اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومى فى فلسطين للشعب اليهودى، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيونى علماً بهذا التصريح. (التوقيع) المخلص آرثر جيمس بلفور».
ومنذ مائة عام كانت كل أطراف اللعبة السياسية الاستعمارية قد توافقت على استخدام اليهود كغطاء دينى وموروث تاريخى وعناصر بشرية، واستخدم الصهيونية كأداة تنفيذية للكيان المنشأ على أرض فلسطين بأيديولوجية عنصرية دموية، وأسلحة تدميرية، ومشروع توسعى لا تحده حدود.. وقد حرصت كل الأطراف آنذاك وحتى الآن على إخراج هذا الكيان الصهيونى فى إطار قانونى مدنى.
وقد كان وعد «بلفور» واضحاً فى ذكر مصطلحى «اليهود والصهيونية» كمصطلحين منفصلين فى إشارة واضحة إلى أن اليهود ليسوا جميعهم من الصهاينة، وهو واقع تاريخى ممتد حتى الآن نراه فى العداء العلنى بين طوائف اليهود فى العالم ضد الصهاينة الذين يحكمون «إسرائيل» ويعادى اليهود المشروع الصهيونى الاستعمارى ذاته ويرون فيه القضاء على اليهود والتعجيل بفناء العالم أجمع.
كما كان وعد بلفور واضحاً فى نصه «على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين» وهو ما ترجم فى الأدوات التنفيذية فى الدولة «مقام قومى» التى تلتزم بالقواعد المدنية ببعدها القانونى وتطبيقاته المحلية وبالقوانين والقواعد المدنية الدولية وهو ما التزمت به قيادات الكيان الصهيونى فى القوانين المطبقة فى فلسطين المحتلة وعلى المستوى الدولى.. مع استخدام الصهاينة أساليب المراوغة وادعاء الضعف والتلاعب بالصياغات والتأجيل والاحتماء بقوى عظمى مساندة لهم بدعم لا محدود.
ومع ضعف العرب وتفتتهم والصراعات والحروب والخيانات من بعض الفلسطينيين والعرب حققت «إسرائيل» تمدداً جغرافياً مستمراً على أرض فلسطين المحتلة عبر بناء المستوطنات غير الشرعية والجدار العازل والاعتقال والقتل وتدمير الممتلكات.. كما تضخمت قوة الدولة العسكرية والاقتصادية والمالية وصنعت نفوذاً تأثيرياً فى منطقتنا وبعض دول العالم فى إطار بروتوكولات صهيون ومخططات الصهيونية العالمية فى المراحل الأربع الربع قرنية التى بدأت منذ عام 1898 بمؤتمر بال بسويسرا، والتى تنتهى بالسيطرة الصهيونية على العالم أجمع وليس فلسطين ولا المنطقة العربية فقط.
والتزام الصهاينة بالمفهوم المدنى والقانونى كغطاء داخلى ودولى أسهم فى نجاحهم فى مشروعهم حتى الشهور الثلاثة الماضية، وهو ما أصبح اليوم فى مهب الريح وسقطت ورقة التوت بعد أن وافق الكنيست الإسرائيلى على قانون يقنن السرقة للأراضى الفلسطينية التى بنوا عليها المستوطنات والتى كان القانون الإسرائيلى ذاته يجرمها ويصفها بغير القانونية وكانت الحكومة تزيل بعضها نتيجة أحكام قضائية!! وهو ما يتصادم مع قرار مجلس الأمن 2334 الصادر قبل شهور قليلة بدعم أمريكى ويجرم بناء المستوطنات فى الأرض المحتلة ويعتبرها تعيق السلام والحل السياسى!! والقانون الجديد يدعم البلطجة ويهدر القواعد القانونية الراسخة عالمياً ويقضى على حل الصراع على أساس إقامة دولتين (فلسطينية وإسرائيلية) وينسف حل تدويل القدس.. ويحول الأراضى من مناطق نزاع إلى مناطق مستعمرة ومعه أصبحت «إسرائيل» دولة استعمارية لا تطبق القوانين المدنية ولا تحفظ الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية بفلسطين.. وهو ما يجعلها تنضم إلى الدول الاستعمارية المرفوضة فى الأمم المتحدة!! وهو ما يفتح الباب أمام محاكمة قيادات صهيونية أمام المحاكم الدولية وربما يندفع الصهاينة فى حروب مباشرة مع دول المنطقة وهو ما يضر بقوة بالتحالفات والمصالح والصورة اليهودية فى العالم.. وهو ما يبشر بصراع يهودى جديد ضد الصهاينة.. وما زال العرب لا يجيدون التعامل مع المتغيرات الجديدة والخطيرة.. ندعو الله.. والله غالب.