ليست الديمقراطية صندوق انتخابات فقط، وليست البرلمانات المنتخبة مجرد مؤسسات تمرر القوانين أو لا تمررها وتفعل الإجراءات الرقابية أو توقفها بأغلبيات صماء ثابتة لا تتغير أبدا. أكتب هذا وفى ذهنى الكثير مما يحدث فى مجلس الشعب والتصويت المتطابق للأكثرية العددية لحزب الحرية والعدالة وحزب النور بشأن جميع القوانين التى عرضت على المجلس إلى اليوم والعدد الأكبر من الإجراءات الرقابية.
تثبيت العمالة المؤقتة فى درجات معينة بالقطاع الحكومى وتعديل أحكام قانون القضاء العسكرى وتعديل نظام الثانوية العامة وضبط الحد الأقصى للدخل بالقطاع الحكومى وربطه بالحد الأدنى جميعها قوانين مررتها الأكثرية العددية للإسلاميين بسرعة ودون اعتبار لآراء ومواقف الأقلية التى تندرج تحتها الأحزاب الصغيرة وعدد من المستقلين. وبالتصويت المتطابق ذاته مررت الأكثرية العددية قانون تعويض أسر شهداء ثورة 25 يناير والمصابين وتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية، إلا أن الأقلية اشتركت معها فى الموافقة على القانونين إلى حد بعيد. الأكثرية العددية نفسها ومعها الأقلية رفضت بيان الحكومة فى ممارسة للاختصاص الرقابى ثم تفرقت السبل فأراد «الحرية والعدالة» سحب الثقة ولم يقدر، ورغب النور مع الأقلية فى مطالبة الحكومة ببرنامج محدد للأسابيع الأخيرة قبل انتخاب الرئيس.
سردت هذه الأمثلة المتنوعة للتدليل على أن الأكثرية العددية تحولت إلى أغلبية ثابتة ليس فقط بشأن قوانين سياسية (تعديل مباشرة الحقوق السياسية مثالا) بل أيضاً فيما خص القوانين ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية. وهنا تحديدا جوهر الأزمة بمجلس الشعب ووجه اختلاف بينه وبين برلمانات ديمقراطية وتعددية حقا.
فى الديمقراطيات تتحول الأكثريات العددية إلى أغلبيات صماء إما فى حالة القضايا السياسية الكبرى أو قضايا المجتمع ذات الطبيعة الخلافية الحادة. أما فى الأمور الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية التى يستدعى التعامل معها قاعدة موضوعية ومعلوماتية للنقاش وأخذ الرأى، فتنزع الأكثريات العددية لتغليب المضمون على الانحياز السياسى بل إن الكثير من أحزاب الأغلبية أو الأكثرية العددية فى البرلمانات الديمقراطية يخلى طرف نوابه بشأن هذه الأمور ويسمح لهم بالتصويت دون تقيد بالالتزام الحزبى إعلاء واحتراما لقاعدة الموضوعية.
مع بالغ الأسف لم أرصد إلى اليوم فى مجلس الشعب نزوعا لدى الأكثرية العددية لتغليب قاعدة الموضوعية على الانتماء السياسى أو الالتزام الحزبى، بل إن القاعدة المعلوماتية والموضوعية غابت تماماً عن بعض المناقشات ومع ذلك أقرت القوانين محل النظر بالأكثرية المتحولة إلى أغلبية صماء أو أوتوماتيكية. ولنا فى تعديل نظام الثانوية العامة وقانون الحد الأقصى للدخل بالقطاع الحكومى وتثبيت العمالة المؤقتة أمثلة واضحة على ذلك.
البرلمانات لا تمرر دوما بأغلبية صماء.. وتغييب قاعدة الموضوعية خطر يتهدد الديمقراطية مستقرة كانت أو ناشئة.