السيف والصولجان: قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين
لم يكتف عمرو بن العاص ببذل النصح لمعاوية، عندما أوشك أن يواجه الهزيمة فى «صفين»، يوم أن اقترح عليه أن يدعو فريق «على» إلى تحكيم كتاب الله بينهما، الأمر الذى أدى إلى زرع الشقاق فى صفوف جيشه، فانفض «القراء» من حوله ولجأوا إلى «حروراء» ليضعوا البذرة الأولى لتشكيل فرقة الخوارج، وبدأ الكثير من أنصاره من أهل العراق يتباطأون ويتثاقلون عن الخروج معه، وأخذ اليأس منهم يدب فى نفسه. لم يكتف عمرو بن العاص بطرح الفكرة بل كان المسئول عن إنفاذها لصالح معاوية، وبالشكل الذى يخدم أهدافه فى الاستحواذ على السلطة. ويحكى ابن الأثير فى كتابه الكامل فى التاريخ أن «عمرو بن العاص حضر عند «على» ليكتب القضية بحضوره، فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين. فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وأما أميرنا فلا. فقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإنى أخاف إن محوتها ألا ترجع إليك أبداً، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى ذلك على ملياً من النهار، ثم إن الأشعث ابن قيس قال: امح هذا الاسم، فمحى، فقال على: الله أكبر! سنّة بسنّة. والله إنى لكاتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية فكتبت: محمد رسول الله، وقالوا: لست برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرنى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمحوه، فقلت: لا أستطيع. فقال: أرنيه، فأريته، فمحاه بيده وقال: إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو: سبحان الله! أنشبه بالكفار ونحن مؤمنون؟! فقال على: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمؤمنين عدواً؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بينى وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال على: إنى لأرجو أن يطهر الله مجلسى منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان، قاضى «على» على أهل الكوفة ومن معهم وقاضى «معاوية» على أهل الشام ومن معهم، إننا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيى ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان فى كتاب الله، وهما أبوموسى عبدالله بن قيس، وعمرو بن العاص، عملا به، وما لم يجداه فى كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة».
كان عمرو بن العاص -كما يشير هذا النص- حريصاً على محو صفة الإمارة عن على ابن أبى طالب، عند صياغة كتاب التحكيم، وبنفس الطريقة نزع الإمارة عن على حين خرج يعلن مع أبى موسى الأشعرى نتيجة التحكيم، وكانت الخدعة الشهيرة. ومن الملفت فى الحوار الذى وقع بين على بن أبى طالب وعمرو بن العاص أن علياً كان ينظر إلى معاوية وفريقه نظرته إلى عرب مكة الذين تصالحوا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى «الحديبية»، وعندما غضب عمرو لذلك وقال: أنشبه بالكفار ونحن مؤمنون! قال على: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمؤمنين عدواً؟ لقد كانت صراحة نظرة «على» فى التفرقة ما بين البشر من حوله على أساس الدين تتماثل مع صراحة عمرو بن العاص ومعاوية فى الحرص على الدنيا.
ثم كان ما كان مما تعلم من نتيجة التحكيم، وخلع أبى موسى لكل من على ومعاوية كما اتفق الحكمان، ثم انقلاب عمرو بن العاص وإعلانه تثبيت صاحبه كولى دم عثمان بن عفان رضى الله عنه، وكذلك ما كان من مقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه على يد واحد من الخوارج هو عبدالرحمن بن ملجم، وبينما كان «على» يحتضر قالوا له كما يحكى صاحب البداية والنهاية: «يا أمير المؤمنين استخلف من بعدك، فقال: لا ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى بغير استخلاف، فإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفى وصلى عليه ابنه الحسن، لأنه أكبر بنيه رضى الله عنهم، ودفن بدار الإمارة على الصحيح من أقوال الناس، فلما فرغ من شأنه كان أول من تقدم إلى الحسن بن على رضى الله عنه قيس بن سعد بن عبادة، فقال له ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه، فسكت الحسن، فبايعه، ثم بايعه الناس بعده، وكان ذلك يوم مات «على»، ومن يومئذ ولى الحسن ابن على، وكان قيس بن سعد على إمرة أذربيجان، تحت يده أربعون ألف مقاتل قد بايعوا عليا على الموت، فلما مات على، ألح قيس بن سعد على الحسن فى النفير لقتال أهل الشام فعزل قيسا عن إمرة أذربيجان، وولى عبيد الله بن عباس عليها، ولم يكن فى نية الحسن أن يقاتل أحدا، ولكن غلبوه على رأيه، فاجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله، فأمر الحسن بن على قيس بن سعد بن عبادة على المقدمة فى اثنى عشر ألفا بين يديه، وسار هو بالجيوش فى أثره قاصدا بلاد الشام، ليقاتل معاوية وأهل الشام».