عندما قامت ثورة يناير التى كانت ثورة شعبية بامتياز، أذهلت الجيش قبل أن تذهل الحاكم، وبدا ذهول الجيش فى تخبط قياداته فى بداية الثورة، وعدم إعلانها عن الانحياز للثورة إلا بعد 15 يوماً من نزول قوات الجيش لحفظ الأمن والمنشآت العامة، ومنح الثوار يوم 11 فبراير السلطة للجيش بالرحيل من ميدان التحرير معمل صناعة الثورة، حيث قبل الشعب فى ذلك الوقت بحكم الجيش لما له من خلفية وطنية فى أذهان المصريين، ولأن الجيش هو من يملك السلطة البدنية والقوة الحاسمة لأى صراع سياسى.
ولكن يبقى السؤال الحائر كيف تتم مدنية الدولة؟ كيف يخرج المجلس العسكرى المتورط -جنرالات نظام مبارك-من الحكم؟ وكيف تنسحب المؤسسة العسكرية من المشهد السياسى والحياة المدنية لمصر بعد عقود من هيمنة الجيش على الحكم.. وبقاء الجيش كعامل حسم فى خلفية المشهد السياسى؟ وتصعب الإجابة فى ظل تعقيدة يصعب حلها.. فالجيش بطبيعته مؤسسة مغلقة على ذاتها لا تقبل تدخل المدنيين.. يحكم العلاقة بين أفرادها حسم وخشونة ترتقى فى كثير من الأحيان إلى مرحلة القسوة فى التعامل التى اعتادها العسكريون ولم يعتدها المدنيون.. كما أن للمؤسسة العسكرية مصالح واسعة فى بقاء هيمنة الجيش على الحياة السياسية، لما لهم من مصالح حتى بعد تقاعدهم فى تبوؤ المناصب الأهم والأرفع فى الدولة؛ من سفراء ومحافظين ورؤساء مجالس إدارات الشركات والمؤسسات والهيئات المدنية.
ويمكن أن يكون حل المعضلة فى رئيس مدنى قوى، هذا الرئيس يجب أن يكون صاحب مواصفات خاصة تمكنه من أن يقف فى مساحة وسط بين كل التوجهات والأيديولوجيات السياسية، قادر على وضع خطة زمنية واضحة -قد تمدد لعدة سنوات- للإطاحة والتطهير التدريجى.. الإطاحة بكل رؤوس نظام مبارك والتطهير التدريجى لفروع نظامه التى تشعبت فى جسد مصر، بما فى ذلك المؤسسة العسكرية معتمداً فى ذلك على الدعم الشعبى، فيقوم بفك تشبيكة العسكريين من الحياة المدنية، ويقوم برسم علاقة جديدة، موضحاً ومحدداً فيها -كما يحدث فى البلدان الديمقراطية- مهام المدنيين والعسكريين، حيث يتولى المدنيون المناصب السياسية والحكومية فى الدولة، وتقتصر مهام العسكريين على حماية الأمن القومى، ليلتقوا فى منطقة وسط، تقوم فيها السلطة المدنية بمراجعة ميزانية الجيش فى إطار مناقشة الميزانية العامة للدولة، ويقدم فيها العسكريون النصائح اللازمة للرئيس والحكومة -من المدنيين - فى كل ما يتعلق بشئون الأمن القومى، متقبلين أن تكون القرارات النهائية فى يد السلطة المدنية.
حيث يحكم هذه العلاقة عقد جديد يلتزم طرفاه من المدنيين والعسكريين ببعض الالتزامات فى مواجهة بعضهم البعض؛ حيث تمتلك السلطة المدنية إدارة الحياة السياسية دون أدنى تدخل من العسكريين، كما يلتزم المدنيون باحترام المؤسسة العسكرية وتقدير خبراتها فى مجال الدفاع، وعدم توجيه المؤسسة العسكرية فى مهام تتعلق بالصراعات السياسية الداخلية.
وبذلك نبدأ عهداً جديداً تسود فيه عملية تفهم وتوطيد للروابط المدنية والعسكرية، مما يمكن السلطة المدنية من السيطرة على القوات المسلحة، ويمكن المؤسسة العسكرية من التفرغ للارتقاء بمستوى الاحتراف العسكرى.
وكما رأينا اليوم الذى يطاح بطاغية مثل مبارك، فقد نرى يوماً وزير دفاع مصر مدنياً، فى ظل دولة مدنية، فمصر بعد ثورة يناير لا تعرف المستحيل.