صك أنور السادات المصطلح الشهير الذي يصف به مثقفي مصر الذين رفضوا سياساته أو حتى الذين تجرأوا و ناقشوها .. لم يستثن الرجل أحدا إلا من سلكوا طريق النفاق و العهر السياسي الفاضح، وانتهى الأمر بوضعهم جميعا في السجون حتى لا يسمع صوتا إلا رجع الصدى لخطابه الأوحد .
و إن كان الشئ بالشئ يذكر فإنه أخرج تيارا متطرفا من سجونه، لا اعترافا بظلمه لهم و إنما باتفاق بغيض أن تحاربوا له أعداءه من الأرازل الذين أعيته الحيلة في مقاومتهم أو التعامل أو الاعتراف بدورهم في مستقبل الأوطان.
لماذا نحن دون العالم كله الذي يبدو التاريخ جاثما على نفس الأرض لا يتحرك أبدا نحو المستقبل .. لماذا يبدو وكأنه يكرر نفسه بذات الآليات القديمة .. لماذا نحس الآن نفس اللغة ونفس الإيقاع و نفس الدائرة المقيتة، لماذا يشعر الناس أنهم استبدلوا الحزب الذي استباح ضمير الوطن و أرضه و ثروته وتراثه بمجموعة تمضي في نفس الطريق يكرهون المثقفين ويتربصون بالإبداع ويحتقرون تراث الوطن و حضارته، التي كانت فجرا للضمير الإنساني حتى قبل الرسالات و الأديان.. لماذا يؤرقهم كثيرا حرية إنسان في التعبير عن أشواقه للحب و الخير والجمال؟!
المحزن حقا لدرجة البكاء أن رقابة المبدع الذاتية شديدة القسوة، بفعل قرون من القهر والخوف .. رقابة من الجذور، ترفض الإفصاح عن مكنون الروح و تقيد الانطلاق نحو آفاق الخيال الذي هو أصل الإبداع و جوهره.. رقابة عميقة تصورنا أن الثورة جاءت لتفك عقالها ( ونحن اللغة الوحيدة التي فيها العقل هو القيد فنقول عقل الناقة أي قيدها) و تحررها لتسهم في بناء مجتمع حر قادر على الحلم الذي هو روح أي انطلاق بشري نحو اللحاق بعصر تجاوزنا حتى كدنا نيأس من اللحاق به، لا رقابة ذاتية تمنع الفكرة من مجرد التجسيد ؛ لوحة أو أو كلمة أو شريطا مصورا، يجهضها قبل أن تتشكل في الوحدات و نقمعها تحت طبقات كثيفة من أفكار وتقاليد و ترهات و ابتذال و قهر و خوف و نفاق و جبن و مذلة و استصغار الشأن.
هذه الرقابة ليست هي عدونا الأول الآن.. تصوروا.. هي رفاهية إذا قورنت بما علينا أن نواجهه اليوم... لقد عدنا إلى أبجدية الحرية. و كأننا لم نخلق بهذه الحرية أعظم حضارات الإنسانية .. نحن لا زلنا ندافع عن قيثارتنا ولا يتاح لنا أبدا الوقت لكي نعزف الألحان.. نحن ما زلنا نقنع الذين تربوا على القهر أن الحرية هي روح أي دين و أي رسالة.. و أن الاختيار الحر هو مناط التكليف الذي لا حساب إلا بعد التمتع به.. نحاول نحن المذعورون من سيوف المتطرفين أن نطمئنهم بأن الحرية _حتى و إن تجاوزت _ أفضل من العبودية التي لا يحبها الله ولا رسله جميعا.. فقد خلقنا أحرارا ولم يجعل لأحد من خلقه سلطة فرض رؤاه على الناس و كيلا عنه جل شانه .. نحاول أن نثبت فيهم الثقة في نقاء ضمائرنا وفي سواء ذوق الناس رغم كل مظاهر فساد الضمائر و الأذواق.
الحرية تصحح أوضاعها بنفسها عندما نسلم جميعا بأن أحدنا لا يملك الحقيقة المطلقة ناهيك عن فرض "مفهومه " عن الحقيقة علينا جميعا.. ليس لأحد الحق في التفتيش في ضمائر الناس و المبدعين و تفسير رؤاهم على هواه.. ضمير المبدع و ذوق المتلقي هما السقف الوحيد الذي يضمن ارتفاعه إلى عنان السماء.
اتركوا المبدعين يتنفسون لكي تمتلئ رئة الوطن بالهواء النقي.
اتركوا "الأرازل" يتمتعون بالحرية، فرب "رزل" يساهم في إفاقة نائم أو هداية تائه أفضل من منافق يقودنا إلى متاهات الضياع.