حين وقعت أحداث الأمن المركزى، فى فبراير من العام 1986، كنت ما زلت طالباً فى المرحلة الثانوية، ورغم أننى فى تلك الفترة لم أكن منشغلاً بمتابعة وسائل الإعلام، أو الدراسات الإعلامية، على نحو متخصص أو مكثف، فإن ذلك لم يمنع حصولى على الدرس الأول فى هذا المجال.
لقد وجدت أن العديدين من أفراد أسرتى الأكبر سناً والأكثر حاجة لمعرفة التطورات الجارية يحاولون بطرق شتى الوصول إلى مصادر معلومات غير وطنية لإدراك ما يحدث، حتى إن بعضهم سعى إلى التزود بالأخبار من راديو «العدو» الإسرائيلى.
يفيد الدرس الأول ببساطة أن الأخبار والمعلومات والتحليلات والآراء تكتسب قيمة ومكانة كبيرة فى أوقات الغموض والخطر وعند اتخاذ القرارات، ولهذا السبب فإن «طلباً» قوياً ينشأ عليها، وحينما لا تستطيع الوسائط الوطنية تلبية هذا الطلب على نحو فعال، فإن الجمهور يبحث عن مصادر أخرى للحصول على مبتغاه.
ولأن بعض القواعد الاقتصادية صالحة أيضاً للتطبيق على صناعة الإعلام فإن أى طلب ينشأ على الأخبار والمعلومات، عادة ما يقابله عرض ما، وبفضل زيادة الطلب يكثر عدد العارضين الذين يأتون لكى يملأوا الفراغ.
لذلك، فقد عاقب المواطنون دولتهم التى عتّمت عليهم وبخلت بالمعلومات الضرورية فى أوقات الغموض والخطر، بأن لجأوا إلى مصادر بديلة، وبعضها كما كنا نعرف آنذاك كان معادياً.
قبل هذا الحدث بعقدين، كانت مصر على موعد مع درس إعلامى أكثر قسوة، حين اندلعت حرب 1967، وراح الإعلام الوطنى يُغرق المواطنين فى أخباره الكاذبة، بداعى الحرص على الروح المعنوية وتماسك الجبهة الداخلية فى المعركة.
لقد أصبحنا ندرك الآن مدى فداحة ما جرى، إذ كانت الأمة تذهب إلى هزيمة مُذلة، بينما هى مُخدرة ومسجونة فى التعتيم والإنكار، ما أدى إلى إصابة قطاعات من المواطنين بأزمات صحية ونفسية دفعت بعضهم إلى الانتحار، ليس فقط بفعل الهزيمة الكارثية، ولكن أيضاً تأثراً بحالة الخداع التى أورثتهم إحباطاً وشعوراً بالضعة والضآلة لا مثيل له.
كانت الدولة قد سيطرت على مصادر المعلومات، وباتت المصدر الأوحد الذى نوّم الشعب على أنغام الانتصارات وإسقاط الطائرات، قبل أن يفيق هذا الأخير على كارثة الهزيمة المُرة، ويعرف أن كل ما اقتاتت عليه مخيلته السليبة لم يكن سوى أكاذيب.
بسبب هذا النوع من الأداء، راحت وسائل الإعلام المصرية تدفع أثماناً باهظة من مصداقيتها وقدرتها على الإقناع، وهو الأمر الذى تم تخفيف أثره بشكل ملموس لاحقاً حين جاءت الإدارة الإعلامية لحرب أكتوبر 1973 على نحو أكثر احترافية ورشداً.
يوم الجمعة الماضى، وقع حادث الواحات الكارثى، وفقد بلدنا أرواح نخبة من أفضل شبابه، من رجال الشرطة الأبرار الذين ارتقوا إلى الشهادة دفاعاً عن الوطن وذوداً عن حياضه، لكن ما جرى بموازاة ذلك على صعيد المواكبة الإعلامية لهذا الحادث لم يكن لائقاً ولا مقبولاً.
وببساطة شديدة، فقد كانت هناك حاجة ماسة لدى المواطنين لمعرفة ما يجرى، وكانت وسائل الإعلام الوطنية مطالبة بأن توفر للجمهور القدر المقبول والمتاح من المعلومات والآراء والتحليلات التى تشفى غليله، لكن لأسباب شتى، لم يحدث ذلك، وهو الأمر الذى ترك المواطنين نهباً للشائعات أو تفاعلات «السوشيال ميديا» أو الوسائط الوافدة، وبعضها أيضاً يصدر عن «أعداء» أو «خصوم سياسيين».
بعد ثلاثة عقود من أحداث الأمن المركزى، وخمسة من هزيمة 1967، ما زلنا لم نتقن الدرس الإعلامى، مع أن دولاً أخرى كثيرة سبقتنا فى هذا المضمار، استطاعت أن تطور منظوماتها الاتصالية لتواكب المتغيرات، ولتتفادى مثل هذه الهزائم التى يبدو أننا ندمنها.
تقوم استراتيجية الاتصال التى تتبعها الدولة راهناً فى مواكبة الحرب ضد الإرهاب على ثلاثة مرتكزات أساسية، أولها التعتيم والتحفظ فى نشر أخبار الإرهاب ووقائع المواجهة معه، وثانيها السيطرة على مصادر الأخبار والمعلومات المتداولة فى هذا الصدد، عبر قصرها على المصادر الرسمية دون سواها، وثالثها «التقديم الإيجابى» للوقائع والأحداث، بما يخدم الروح المعنوية للقوات النظامية والمؤسسات والمواطنين.
إن تلك الاستراتيجية فى حاجة إلى مراجعة لثلاثة أسباب رئيسة، أولها أن التعتيم والتحفظ لم يعد هدفاً قابلاً للتحقق بسبب التغيرات التى طرأت على المجال الاتصالى، والدور المتصاعد لـ«السوشيال ميديا».
يصعب جداً أن يوجد أمر يمكن أن يحدث على صعيد المواجهات الدائرة ضمن الحرب على الإرهاب من دون أن يكون خبراً قابلاً للبث عبر وسيط ما.
بموازاة ما يصدر عن المصادر الرسمية بشكل رسمى، هناك ما يصدر عن تلك المصادر نفسها بشكل غير رسمى، وهناك أيضاً الطرف الآخر فى المواجهة الإرهابية، الذى يمتلك آلته الإعلامية الفعالة، بالإضافة بالطبع إلى المصادر الإعلامية والمعلوماتية الأخرى، وبعضها كما أسلفنا يقف فى معسكر المناوءة، وبذلك لا توجد فرصة للتعتيم غالباً.
أما السبب الثانى الذى يفرض ضرورة مراجعة تلك الاستراتيجية الاتصالية فهو سقوط نظرية التحكم فى مصادر الرسائل الإعلامية المواكبة للحرب على الإرهاب.
لم يعد بالإمكان إلزام التغطيات الإخبارية المواكبة للعمليات الإرهابية بقصر التزود بالمعلومات على المصادر الرسمية، لأن تلك المصادر تتباطأ أحياناً، وتمتنع فى أحيان أخرى، وفى كل الأحوال فإنها تقدم جانباً واحداً من الصورة، ما يفرض على وسائل الإعلام أن تسعى إلى تغطية جوانب أخرى من مصادر معتبرة حتى وإن لم تكن رسمية.
ويتمثل السبب الثالث فى أن مفهوم «التقديم الإيجابى» الذى تعتمده الاستراتيجية الاتصالية بداعى المحافظة على الروح المعنوية للدولة والقوات النظامية والجمهور، ثبت أنه لم يعد إيجابياً.
وبوضوح أكثر، فإن الدولة تريد أن تقدم المعلومات الخاصة بالحرب على الإرهاب بشكل يعزز تماسك الجبهة الداخلية، ويزيد الثقة فى قدرة المؤسسات، ويرفع الروح المعنوية للقوات المقاتلة، ويحرم العدو من الدعم النفسى الذى يأتى عبر إظهار بعض انتصاراته.
وحين تقوم الدولة بذلك، فإنها تحرف التغطيات، أو تنزعها من سياقها، أو تحذف بعض المعلومات انتقائياً، أو تلقى الضوء على جوانب وتعتم على جوانب أخرى، ثم إنها تحدد قوائم بأسماء المحللين الذين يتحدثون بطريقة تؤطر النقاش ضمن هذا التوجه «الإيجابى» وحده.
لم يعد مفهوم «التقديم الإيجابى» إيجابياً لأن الجمهور عادة ما يترك هذا النمط من المعالجة، بعدما يتيقن من أنه أخفق فى المعرفة من خلاله، ويلجأ مباشرة إلى أنماط أداء أخرى، تبقيه أكثر علماً بما يجرى من تطورات مهمة، والأخطر من ذلك، أنه يفقد الثقة فى المنظومة الإعلامية الوطنية بأكملها.
لم يكن الإخفاق نتيجة مباشرة لفشل الاستراتيجية الاتصالية المتبعة فقط، لكنه جاء أيضاً نتيجة لتردى أداء المنظومة الإعلامية، وبؤس المستوى الذى انحدر إليه قطاع مؤثر من الإعلاميين والصحفيين، وعدم قدرتهم على الدفاع عن أدوارهم المهنية من خلال ممارسات مسئولة ومستويات أداء رشيدة.
علينا أن نغير الاستراتيجية الاتصالية لترتكز على الإتاحة، والشفافية، والفورية، والتعددية، والتقديم الموضوعى للأحداث، حتى نستعيد ثقة مواطنينا الذين ذهبوا إلى منابر أخرى.