مع وصول الحرب على تنظيم «داعش» لمشارف محطات النهاية، وبالأخص إتمام تقويض ما عرف بـ«أرض الخلافة» فى الساحة العراقية والسورية، جاء السؤال الذى يؤرق الكثيرين ويحاول كشف ملامح «اليوم التالى» لتلك النهاية. التنظيم الذى امتلك الأرض والمال والرجال بقدرات لم يسبقه إليها كيان «إرهابى مسلح» من قبل، من المنطقى أن يشهد يومه التالى تفصيلات ومسارات تختلف عن سابقيه، وما يشغل أجهزة الاستخبارات والمعنيين بالاقتراب من هذا الملف فى مختلف دول العالم هو مصير «المقاتلين»، باعتبارهم أخطر قدرات التنظيم والقادرين على صياغة فصول جديدة وممتدة فى حياته.
المركز الدولى لدراسة التطرف والعنف السياسى (ICSR) يعد من أبرز المراكز البحثية المستقلة، مقره قسم دراسات الحرب فى كلية كينجز بلندن، وضع خريطة نُشرت على نطاق محدود فى حينها «منتصف 2015»، رصد من خلالها أن قرابة الـ(80 دولة) لها تمثيل بمقاتلين داخل صفوف التنظيم، وأن هناك طفرة عددية رصدها المركز، حيث وصلت فى تاريخ نشره إلى نحو (20000 مقاتل)، مقارنة بـ(15000 مقاتل) كانت إحصائية تقديرية قد سجلتهم فى أكتوبر 2014، وأعلنت تلك الأرقام على عهدة المركز، جاء هذا الإحصاء باعتباره أول تقدير «موثق» على قدر عال من المصداقية الرقمية والبحثية، وهو فى الحقيقة كان عند هذا التاريخ «منتصف 2015» يرصد رحلة صعود التنظيم، وحينها كشف النقاب فى ذات الخريطة لأول مرة «دولياً» عن حجم تدفق المقاتلين من الدول الغربية للالتحاق بصفوف التنظيم.
تلك المحطة من عمر التنظيم كتبنا فيها تفصيلياً حينها، لكن ما يهمنا اليوم أنه بعد هذا التاريخ، انطلقت مجموعة من المراكز البحثية المدققة خلف هذا النشر البريطانى، لتؤكد تلك الأرقام وتوثق أسماء البلدان التى خرج منها المقاتلون، حيث استمروا خلال عامى 2015 و2016 فى التنامى، ليصلوا فى تقديرات الذروة التى لم يختلف عليها أحد تقريباً، ما بين 35 و50 ألف مقاتل فى صفوف «داعش»، وهؤلاء هم من شهدوا مع التنظيم رحلة الانحسار على الأرض، وعنهم خرجت التساؤلات التى تتحدث عن مصيرهم المستقبلى، بالأخص أن التنظيم لم يرصد له خسائر بشرية فى كافة المعارك الكبيرة التى خاضها، تستطيع أن تخلخل هذا الرقم الهائل.
أول مركز أمريكى متخصص فى شئون الإرهاب التفت وركز جهوده بقوة حول «الأرقام»، وأسهم طوال الأعوام الماضية بجهد ونتائج شكلت مرجعية موثقة لدى قطاع عريض من الباحثين، فضلاً عن صناع القرار الأمريكى ونظرائهم على المستوى الدولى، كانت هى مؤسسة الاستشارات الأمريكية (Soufan) التى نشرت مؤخراً أحدث تلك المنتجات البحثية الجمعة الماضية، فى تقرير يعد أول وأهم اقتراب مبدئى من مشكلة «المقاتلين العائدين»، ذكرت فيه أن روسيا تتصدر قائمة الدول، التى انحدر منها أعلى عدد من المقاتلين الأجانب الذين ذهبوا للقتال فى سوريا والعراق وانضموا إلى تنظيم «داعش»، فعدد المقاتلين الروس فى التنظيم بلغ (3417) مقاتلاً، وجاءت السعودية فى المركز الثانى (3244)، ثم الأردن فى المركز الثالث (3000)، تليها تونس (2926)، ثم فرنسا (1910) على التوالى.
أما بالنسبة لأرقام العائدين من سوريا والعراق، فقد عاد (400) شخص إلى روسيا، و(760) إلى السعودية، و(250) إلى الأردن، و(800) إلى تونس، و(271) إلى فرنسا، وفى إشارة إلى ألمانيا قدر عدد المقاتلين منها بـ(915)، فى حين من عادوا إلى ألمانيا يبلغ (300) شخص. وذكر التقرير أنه: «فى حين سيكون من الصعب تقييم التهديد الذى يشكله المقاتلون الأجانب والعائدون، إلا أنهم سيشكلون تحدياً كبيراً لكثير من البلدان لسنوات مقبلة»، ووفقاً للتقرير فإنه يوجد الآن؛ ما لا يقل عن (5600) مقاتل من (33 بلداً) عادوا من العراق وسوريا إلى بلدانهم.
من خلال التقرير السابق يمكن وضع دوائر للخطر فيما يخص «المناطق»، بالنظر إلى أن العودة المتوقعة ستشهد حتماً بعداً مناطقياً، فالخطوط والمسارات ليست مفتوحة على استقامتها إلى ديارهم، لكن معظمهم سيكون أقرب للتوجه إلى دائرة يقع موطنه فى محيطها، ووفق هذا التصنيف نعود إلى الدلالات الرقمية التى قد تفصح عن ملامح أولية مقبلة، فأكبر عدد مقاتلين بالنسبة للمناطق الجغرافية جاء من دول الاتحاد السوفيتى السابقة، حيث بلغ (8717)، فى حين جاء الشرق الأوسط بالمرتبة الثانية بعدد بلغ (7054)، ثم أوروبا الغربية (5718)، تليها دول شمال أفريقيا بعدد وصل إلى (5319)، ثم دول جنوب شرق آسيا بـ(1568) مقاتلاً، وكذلك من دول البلقان بـ(845) مقاتلاً، وأتت بالمرتبة الأخيرة أمريكا الشمالية بما يقارب (439).
الرئيس عبدالفتاح السيسى فى معرض حديثه بفرنسا فى زيارته الأخيرة، توقف أمام تلك القضية بعينها «العائدون»، وخصها بجمل محددة داخل ملف مكافحة الإرهاب الذى اشتمل على العديد من العناوين الأخرى، التوقف جاء بدلالة الإفصاح عن «تقديرنا» وهى الكلمة التى استخدمها الرئيس، لتعبر عن تكثيف دقيق لما طرحه من خريطة متوقعة لتحرك «المقاتلين»، وقد بدأ المسار من سوريا والعراق ليضع نقاط عودة إلى (سيناء، ليبيا، ودول الساحل والصحراء)، والأخيرة تشمل شمال السودان، ومالى، والنيجر، وجنوب الجزائر، بالامتداد الغربى الذى يصل بها إلى ساحل الأطلنطى.
تلك النقاط والارتكازات المتوقعة لعودة «المقاتلين» تطوق مصر بحزام «نارى» من الخطر، والتقدير المصرى فى هذا صحيح تماماً ويشاركها فيه العديد من أجهزة الدول المجاورة، وغيرها من الدول التى لها مراكز إنذار مبكر رصدت ما يؤكد الخريطة المصرية الاستشرافية، باريس على سبيل المثال من العواصم القريبة من الرؤية المصرية، وتفتح عيونها وآذانها بقوة على ما قد يجرى فى العديد من النقاط المشار إليها.
فى كل الأحوال؛ نحن بصدد كلمات البداية فى مشهد مجابهة «حزام النار»، وهو ما يستتبعه جهد معقد وكبير، وحديث طويل نتواصل فيه مستقبلاً بإذن الله.