المقال السابق توقف عند محطة مهمة، تتعلق بدراسة الوثيقة الاستراتيجية التى وضعها العميد «حسين همدانى» القيادى بالحرس الثورى الإيرانى، والمكلف من قبل المرشد «على خامنئى»، بالتوجّه إلى سوريا والعمل هناك تحت إمرة «قاسم سليمانى»، قائد «فيلق القدس»، الوثيقة وُضعت خلال ثلاثة أشهر عمل لـ«همدانى» على الأرض السورية، وضمت 100 خطوة تحتاج إلى التنفيذ فى الحالة السورية، حسب توصيفه. تبلغ لـ«همدانى» فى الاجتماع الذى ضمّه مع «سليمانى» لمراجعة وتنقيح خطته وسيناريوهاتها المحتملة، أن: المرشد أمر بأن تكون السياسات الكلية لمحور المقاومة وسوريا؛ تحت إشراف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله.
استكمالاً لما ورد؛ واستناداً إلى ما تبلغ لـ«همدانى» من «قاسم سليمانى» مباشرة، كلفه الأخير بأن يجتمع مع «حسن نصرالله» ويأخذ موافقته على الخطة. وبالفعل جرى تسليم الخطة إلى «نصرالله»، الذى استغرق أسبوعاً فى بحثها ودراستها، قبل أن يجتمع فى بيروت مع «همدانى» وبحضور «السيد زاهدى» قائد الحرس الثورى فى لبنان، واستمر حينها نقاش الخطة من الغروب وحتى صباح اليوم التالى.
فى تلك الفترة «منتصف 2012» قدرت خطة «همدانى»؛ أن (75%) من سوريا قد وقعت تحت سيطرة (الإرهابيين/ الجماعات المسلحة)، فيما بقى (25%) فقط تحت إدارة الحكومة المركزية فى دمشق. علق «نصرالله» على خطة «همدانى» بأنها جيدة جداً، وسجل تحفظاته على مقترحات المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، ونقل «همدانى» فى كتابه عن «نصرالله» تعليقه على الحالة السورية بالتالى: «بشار الآن وحزب البعث الحاكم فى سوريا غارقان فى المستنقع حتى الأعناق، ولم يبقَ شىء حتى يغرقا بالكامل. فى مثل هذه الظروف تريدون أن تقوموا بعمل ثقافى؟ وتفتحون لهم صفوفاً وتعلمونهم؟ وتحدثونهم عن الأمور المعنوية؟ المجال الآن ليس مناسباً للعمل الثقافى أصلاً، فهم يغرقون. اقتصادياً، تريدون أن تخيطوا لهم لباساً؟ وتعطونهم غذاءً؟ هؤلاء لا يحتاجون غذاءً، فهم يغرقون ويتلاشون. سياسياً، تريدون التباحث معهم حول بنية الحكم وتصحيح هيكلته؟ فى الوقت الذى يفقدون كل شىء».
بعد أن أسقط «نصرالله» ثلاثة مفاصل من خطة «همدانى» الاستراتيجية؛ وضع فى المقدمة المحور الأمنى والعسكرى. وفى هذا ينقل عنه «همدانى» نصاً: «أولاً يجب إخراج بشار والحكومة من المستنقع، وبعد ذلك نُنظفهم، ونُلبسهم، ونُطعمهم. ليقرأوا دروسهم ويؤدوا عباداتهم، الآن فقط يجب إخراجهم، هذه أول وأهم خطوة استراتيجية». ويختم «نصرالله» الجلسة بالقول: «اذهب وعدل هذه الخطة وفق ذلك»، ويعلق «همدانى» على هذا اللقاء؛ بأنه أكد لديه أن «نصرالله» فاعل مؤثر فى القرار بشأن سوريا، وليس تابعاً للقرار الإيرانى على هذا الصعيد، ويصف ملاحظاته بالثاقبة وأنها فى محلها تماماً.
يذكر العميد همدانى فى كتابه بعضاً من محاولات وعمليات الاغتيال التى عاصرها أثناء وجوده فى سوريا، كان منها إقدام «طباخ» يعمل فى وزارة الدفاع على دس السم لضباط وقادة فى مجلس الأمن القومى، ويشير «همدانى» إلى أن هذا الطباخ عمل فى الوزارة لعشرين عاماً، قبل أن يتم تجنيده من قبل «المجموعات الإرهابية»، وتمكن بعد العملية من الهروب إلى الأردن. أدت هذه الحادثة التى لم يُعلن عنها فى حينها، إلى إصابة وزير الدفاع وعدد من أعضاء المجلس، ولم يفلح معهم العلاج وتغيير الدم. لكن بعدها نجح أطباء المستشفى الإيرانى «بقية الله» فى لبنان فى علاج المصابين وإنقاذهم من موت محقق. كما يوثّق «همدانى» مقتل «آصف شوكت»، صهر «الأسد» ومدير الاستخبارات العسكرية ونائب وزير الدفاع، الذى كان معارضاً فى البداية لتدخّل إيران، لكنه لاحقاً طلب مساعدتها. فيذكر: «الجماعات الإرهابية استطاعت أن تُجنّد بالمال موظفاً؛ قام بوضع متفجرات تحت طاولة الاجتماع الذى عقده وزير الدفاع مع القادة العسكريين والأمنيين، فى مقر الأمن القومى بحزب البعث، تزامناً مع خطة لاستهداف دمشق، وأدى الانفجار إلى مقتل شوكت وآخرين، وأصيب عدد كبير ممن حضر الاجتماع إصابات بليغة ومتنوعة».
فى النهاية، يروى «همدانى» -بتفاخر- أنه كان صاحب المقترح الذى قدمه إلى بشار الأسد، والذى يصفه بأنه المقترح الذى حال دون سقوط النظام. ويذكر عنه نصاً: «فى آذار (مارس) 2013 أحكم الإرهابيون الطوق على الرئيس بشار، وصاروا قريبين جداً من القصر الجمهورى، حينها نجحنا فى نقل العائلات إلى مكان آمن. وفى الوقت الذى كان فيه الرئيس بشار يبحث عن بلد ليلجأ إليه، قدمت له اقتراحاً وافق عليه ونفّذه على الفور، قلت له افتح مخازن السلاح وسلّح العامة. الحمد لله؛ أنقذ هذا الاقتراح النظام من السقوط، فبعد ذلك بدأت المجموعات الإرهابية بالتراجع، وشكلت المجموعات التى جرى تسليحها، النواة الأولى لمجموعات (الدفاع الوطنى) التى تقاتل داعش والنصرة الآن».
وختم «همدانى» حواره مع محرر الكتاب بالإفصاح عن العنوان الاستراتيجى للجهد الإيرانى فى سوريا، وألحقه بمجموعة من الأرقام الدالة، تسترعى الانتباه لما كان ولا يزال يجرى على أرض الصراع. فقد ذكر: «منافع الثورة الإسلامية فى سوريا، هى التى تجعل إيران تقاتل هنا»، ووصفها بـ«الدفاع المقدس». لذلك فإن (42 فرقة) و(128 كتيبة) من (70000 من الشباب الإسلامى) من العلويين والشيعة تشكل قوات التعبئة. وهى التى تأخذ على عاتقها أمن المدن والقرى السورية، وهناك (130 ألف باسيجى) مدرب ينتظرون الإذن للذهاب إلى سوريا.
انتهت المقتطفات التى وردت بكتاب «رسائل الأسماك»، الذى حرّره الصحفى الإيرانى «كلعلى بابايى»، على عهدة العميد «حسين همدانى» الذى انتهت حياته فى إحدى معارك الميليشيات، التى ظل طوال حوارات الكتاب يفخر بدوره فى تشكيلها وأمرتها. ما لم ينتهِ هو المأساة التى دفع الوطن والشعب السورى ثمنها، فقد شكلت على أرضه «حرباً أهلية» كاملة الأركان، ستظل ارتداداتها وشظاياها القاتلة تدور محلقة فى الإقليم، تبحث عن أرض جديدة وضحايا جدد، لتستمر فصول المحرقة المقدسة!