أمضيتُ فى باريس -عاصمة النور- نحو عشرين عاماً، بين دراسة وعمل وتعلمتُ فيها أموراً كان من الصعب أن أتعلمها خصوصاً القراءة والتأمل واحترام آراء الآخرين والموسيقى التى تصدح فى أرجاء بيتى دون أن أشعر بملل وضيق، ومشاهدة التماثيل التى تملأ الشوارع والميادين، أما الزهور فحدث عنها ولا حرج تملأ الأرجاء حتى لم تترك مكاناً على أعمدة النور فى الشوارع فتحولت إلى حدائق معلقة من كل لون وجنس، وإن كنتُ أنسى فلن أنسى ثلاث ذكريات تقتحمنى وتملأ علىّ حياتى هى:
مهاتفة الدكتور الراحل عبدالفتاح الديدى صاحب كتاب عبقرية العقاد، وكنتُ قد قمتُ بتجميع معلومات عنه فعلمت أنه كان ضريراً لا يرى بعينيه وأمضى فى باريس ردحاً من الزمن وحصل على دكتوراه الفلسفة لكنه بعد أن عاد إلى مصر لم ينتظم فى عمل بالجامعة، وكان يُلقى محاضرات بين وقت وآخر، وكان من عشاق العقاد، فنصحنى أحد الزملاء بقراءة هذا الرجل والاعتماد على كتبه، خصوصاً كتاب «ينابيع الفكر المصرى المعاصر»، وأذكر عندما هاتفته من باريس رد علىّ صارخاً «الله أكبر.. الله أكبر» وبعد أن هدأ قليلاً طلب منى أن أذكره عند تجوالى داخل حديقة لوكسمبورج التى كان يعشقها، وكذلك أستاذه بيرم التونسى والدكتور مصطفى عبدالرازق.
الذكرى الثانية كانت عندما هاتفنى الفيلسوف الكبير حسن حنفى، وقال لى إنه يريد أن يلتقى بفيلسوف مصر الشارد عبدالرحمن بدوى، ولأننى كنتُ أعلم يقيناً أنه من الصعب مقابلة الدكتور بدوى الذى كان يقيم فى فندق لوتيسيا بالحى اللاتينى، وهو الفندق الذى كان ينزل فيه أستاذه طه حسين، وتيمناً بذلك أصر عبدالرحمن بدوى على أن يقيم فى إحدى حجرات الفندق، كما كان يذهب كل صباح إلى المكتبة الوطنية ويحجز بشكل دائم مقعدين، الأول يجلس عليه والثانى يضع حقيبته ومعطفه الرمادى عليه، ويظل فى مكانه حتى المساء.
قلتُ للدكتور حسن حنفى -أطال الله فى عمره وأبقاه- بعد أن عرفت أنه يريد أن يعطيه كتاباً وضعه أساتذة الفلسفة فى مصر بمناسبة بلوغ الدكتور بدوى سن الثمانين: «يمكننا أن نلقاه مصادفة فى المعرض العربى الذى كان يقيمه مرة كل عامين معهد العالم العربى الذى يغفو على شاطئ نهر السين»، وصدق حدسنا فقد أبصرتُ الدكتور بدوى بمعطفه الرمادى الشهير هناك يُقلب الكتب، أقول الحق لقد تقدمنا نحوه وبعد أن ألقى دكتور حسن حنفى التحية قدم له الكتاب مع كلمات امتنان يشعر بها نحوه فلاسفة مصر، فكانت المفاجأة أن الدكتور بدوى لم يشأ أن يأخذ الكتاب، وقال بنبرة عالية: «دعونى وشأنى ولا علاقة لأساتذة الفلسفة بمصر بى، ثم أخبرنى من فضلك من هو المدعو د. أحمد عبدالحليم عطية الذى انتقدنى فى هذا الكتاب؟»، وعندما أصر الدكتور حسن حنفى على إعطائه الكتاب عرفنا أن الدكتور بدوى كان قد قرأه وليس فى حاجة إليه، واعترض بشدة على ما كتبه أحمد عبدالحليم عطية -أستاذ الفلسفة المشاغب- فى حقه سيما أنه خصص فى موسوعة الفلاسفة خمسين صفحة للحديث عن نفسه، واعتبر محمد مزالى رئيس وزراء تونس فى عهد الحبيب بورقيبة فيلسوفاً مثل ابن تيمية وابن رشد!!
والذكرى الثالثة كانت فى شارع فرانسوا الأول القريب من شارع الشانزليزيه الشهير، وكنت لم أنم ليلتى بسبب سعادتى أنى اكتشفت وجود مطعم للطلبة بجوار القصر الكبير الذى كان يتردد عليه السياح ويأتونه من كل فج عميق، وفى طريقى إلى هناك أبصرتُ سيدة عجوز كانت تجلس بجوار شباك مطل على الشارع، وكانت على ما يبدو تجلس على كرسى هزاز، وقفتُ من فورى وأخذت أتأمل وجه هذه السيدة التى لم تتغير وكانت تنظر نحوى لكن لا ترانى، ظلت هذه السيدة على حالها عدة أيام بل عدة أسابيع، أتأملها لكن لم تنفرج أساريرها مطلقاً، وظلت جامدة فى كرسيها وبجوار الشباك، وكنت أود أن أرى ابتسامتها لكن لم يحدث!! وتذكرت هنا الفيلسوف الراحل زكى نجيب محمود عندما روى مرة أنه ذهب مع حفيدته لمشاهدة إحدى مسرحيات شارلى شابلن فى لندن وقال إن حفيدتى كانت تقفز فى مكانها من شدة الفرح ثم بعد لحظات نظرت نحوى فلم تجد أن شيئاً ما قد تغير ملامحى جامدة ووجهى مكفهر وعندما سألتنى لاحقاً لماذا لم أضحك معها فقلتُ لها: «إن الحياة التى نحياها فيها مواقف أكثر كوميدية مما يقدمه شارلى شابلن، باختصار يا ابنتى لم يقدم هذا الممثل البريطانى الشهير ما يستحق الضحك»!!
فى إحدى المرات وكنتُ فى طريقى إلى مطعم الكلية الذى حوّل حياتى إلى نعيم، فسعره منخفض ناهيك عن أننى يمكن أن أطلب دورة ثانية من الخبز والخضار المطبوخ.. أقول صممتُ أن أظفر بابتسامة من هذه السيدة العجوز فوقفت أتأمل ملامحها ووجهها لكن يبدو أنها كانت فى شُغل عنى ربما بسبب أوجاعها وعمرها الطاعن فى السن!
أقول الحق لم أعرف ذلك إلا بعد أن تقدمتُ فى العمر ووجدتنى أجلس مثل هذه السيدة العجوز على كرسى هزاز وبجوار الشباك وملامحى جامدة لا يعرف الابتسام إلى نفسى طريقاً وأوجاع الأمراض تلاحقنى كظلى.. أخذتُ أستحضر ملامح هذه السيدة وأصمتُ طويلاً طويلاً، وقلتُ فى نفسى ما أشبه الليلة بالبارحة.