تعالت أصوات النواب فى مجلس العموم البريطانى مساء ذلك اليوم من نوفمبر الماضى؛ يتساءلون بغضب مشوب بالسخرية: «أين هى باتيل؟»، مما استدعى رداً مرتبكاً من وزير الدولة للشئون الخارجية «أليستر بيرت» قائلاً: «إنها فى الأجواء». وفعلياً كانت وزيرة التنمية البريطانية حينها «بريتى باتيل» قد قطعت رحلة رسمية إلى أفريقيا على خلفية استدعاء عاجل من رئيسة الوزراء «تريزا ماى»، وفور وصولها على متن رحلة الخطوط الكينية التى امتدت لـ«9 ساعات»، لم تتوجه لملاقاة تساؤلات النواب الذين كانوا يقرعون بها زميلها بالوزارة عن رحلات ولقاءات خارجية قامت بها دون علم حكومتها، بل فضّلت التوجه مباشرة إلى «10 داوننج ستريت»، مقر رئاسة الوزراء، وبعد اجتماع استغرق 5 دقائق مع «ماى» نشرت الحكومة رسمياً خبر تقديمها استقالة مصحوبة باعتذار كامل للحكومة ورئيستها عما حدث قبل نحو دقائق من مغادرة «باتيل» المقر من الباب الخلفى، حيث كان هو ذات الطريق الذى سلكته عند وصولها.
«بريتى باتيل»، 45 عاماً، ظلت توصف بـ«نجم» حزب المحافظين الصاعد طوال سنوات مضت من هذا المشهد الختامى، فقد التحقت بالحزب تسعينات القرن الماضى، ومباشرة التحقت بالعمل فى المكتب الإعلامى للحزب بلندن عام 1997، لتقفز بعد عام واحد لترأس المكتب الصحفى للحزب، وتمضى فيه عامين قبل المغادرة الغامضة عام 2000 لتنضم إلى شركة «ويبير شاندويك» الاستشارية. تعود «باتيل» عام 2005 بمفاجأة الترشح عن حزب المحافظين لمقعد فى مجلس العموم، وتخسر فى المحاولة الأولى، لكنها تنجح فى الثانية 2010، ويعاد انتخابها 2015، لتقفز سريعاً بتولى وزارة العمل فى حكومة كاميرون، ووصفتها هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» حينها بالنجمة الصاعدة، مع صدارة نشاطها وصخبها المؤيد لملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. وتُمنح إثر ذلك منصب وزيرة التنمية فى حكومة تيريزا ماى عام 2016.
الرحلة التى قامت بها الوزيرة فى أغسطس 2017، والتى تسببت فى إجبارها على تقديم الاستقالة، كانت وجهتها إلى إسرائيل سراً، وبرفقة اللورد ستيوارت بولاك، الرئيس الفخرى لمجموعة ضغط تسمى «أصدقاء إسرائيل المحافظين»، عقدت «باتل» خلالها 12 اجتماعاً، أبرزها مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، دون اطلاع رئيس الحكومة أو وزير الخارجية. وتصورت حينها أن أجهزة المخابرات البريطانية لن تقوم بالإبلاغ عن تحركاتها واجتماعاتها فى تقريرها اليومى الموجز الذى يُعرض على «ماى»، باعتبارها كانت فى تلك الفترة تقوم بعطلة معلنة. شملت اللقاءات اجتماعين مع وزير الأمن العام «جلعاد إيردان»، و«يوفال روتم»، المسئول الرفيع فى وزارة الخارجية الإسرائيلية. وبالرغم من أن اللورد بولاك رتّب لها لقاءات أخرى مع ألمع الشخصيات النافذة فى الدائرة السياسية لإسرائيل، ظل لقاؤها بإيردان ويوفال محل علامة استفهام عميقة، خاصة أنها اجتمعت بهما مجدداً فى سبتمبر، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك. مما دعا المخابرات البريطانية لرفع معلومة موجزة لرئيسة الوزراء تفيد بأن اجتماع الوزيرة بنيويورك حضره اللورد بولاك أيضاً، مع تحمُّل مؤسسة الاستشارات الإسرائيلية «إشرا» فاتورة رحلته بالكامل إلى الولايات المتحدة. والجدير ذكره أن متابعة الاستخبارات البريطانية لبولاك وإيراد اسمه فى تقاريرها جاء باعتباره فى الأصل عضواً بـ«مجلس اللوردات»، وهو المجلس الذى يتمتع بوفرة من النفوذ والأموال التى تسكب حوله طوال الوقت.
ليس من المصادفة بالطبع أن اللورد «بولاك» أمضى ربع قرن رئيساً لمجموعة «أصدقاء إسرائيل المحافظين» قبل أن يغادرها عام 2015 للالتحاق بمجلس اللوردات مع احتفاظه برئاسة شرفية لها. لكن الأمر مع «بولاك» يمتد لأبعد كثيراً من ذلك، فهو أيضاً يرأس مجلس إدارة المجلس الاستشارى لشركة «تى دبليو سى»، المتخصصة فى تطوير الاستراتيجيات السياسية. وهى شركة تضم بين عملائها شركات دفاع إسرائيلية، أشهرها «ألبايت سيستم» المتخصصة فى إلكترونيات أنظمة الدفاع. وكلا الشركتين البريطانية والإسرائيلية كانتا بطلتين لفضيحة أخرى مدوية فى العام 2012، عُرفت فى بريطانيا اختصاراً بـ«جنرالات للإيجار». وقد نشر بعض محررى «صنداى تايمز» حينها شذرات مما تسرّب لهم عنها، قبل أن يوصد ملفها بصرامة للأبد. منها أن الجنرال البريطانى المتقاعد «ريتشارد أبلجيت» الذى شغل فى هذا التاريخ رئاسة «تى دبليو سى»، تداول مع المحررين حديثاً متفاخراً حول أن مؤسسته تتمتع بنفوذ كبير من خلال صلاتها بمجموعة أصدقاء إسرائيل، وأنها بصدد القيام ببعض العمليات السرية التى لم يفصح عن مكانها، لكنه أكد استخدام مستشارين لضمان الوصول إلى صانعى القرار الخاصين.
هذا الإيجار المشار إليه يتماس كثيراً مع رواية الوزيرة السابقة بريتى باتيل، ليس لاقتراب أبطالها من دائرتها فحسب، وإنما الأخطر أنه يُفصح عن آلية مشابهة لما كانت تقوم به سراً فى تل أبيب ولندن ونيويورك، بالرغم أن ما سُمح بنشره أن اللقاءات كانت تحت عنوان شديد الغرابة، وهو توفير تمويل للمساعدات التى يقدمها الجيش الإسرائيلى للجرحى السوريين فى الجولان. وهذا يُعد مناقضاً للموقف الرسمى البريطانى الذى لا يزال يعتبر الجولان أرضاً محتلة ويحظر التعامل عليها من قبَل الحكومة البريطانية! وقد اضطرت رئيسة الحكومة للتعامل بصرامة مع فضيحة باتيل، كونها تعانى داخلياً «حزب المحافظين» من فوضى وخلل كبير. على خلفية صفعة غير متوقعة نتيجة الانتخابات البرلمانية. هذا ما دفع «باتيل» أيضاً التى عادت لتكتفى بالاحتفاظ بمقعدها فى مجلس العموم، انتظاراً ربما لجولة أخرى، لأن تتحدث بغطرسة مع «الجارديان» قائلة: «لقد ذهبت إلى هناك، ودفعت الثمن، وانتهى الأمر».
التفصيلات الهائلة التى تضيق بها المساحة، وكمّ التوقعات المعتبرة التى كانت تضع «باتيل» على الطريق لتولى زعامة حزب المحافظين قريباً. لا أدرى لماذا وأنا أدقق فى تلك المسارات ومحطاتها الزمنية والوظيفية لم تغادرنى طوال الوقت صورة «نيكى هالى» المندوبة الأمريكية بمنظمة الأمم المتحدة.