بالنظر إلى حجم التحديات التى اجتازها بنجاح منذ أطلّ على المشهد السياسى المصرى، غداة الانتفاضة الأولى فى يناير 2011، يبدو أن الرئيس السيسى قادر على خوض غمار المزيد من التحديات، وتحقيق المزيد من الإنجازات، ومع ذلك فإن المشكلات التى سيواجهها فى ولايته الثانية، التى تبدأ فى يونيو المقبل، لن تكون سهلة أبداً.
سيتسلح الرئيس خلال ولايته المقبلة برصيد من الإنجازات ضخم، وبخبرة وحنكة سياسية تم تجريبها والبرهنة عليها، وبمعسكر موالاة واسع وصلب، لكن هذا المعسكر بالذات قد يطرح على الرئيس تحدياً كبيراً، وهو التحدى الخاص باحترام الدستور وعدم تغييره من جانب، وفتح المجال السياسى، بما يخلق حالة سياسية تنافسية نشطة، تأخذنا إلى انتخابات تعددية شكلاً وموضوعاً فى 2022، من جانب آخر.
لقد اجتاز الرئيس السيسى معركة الانتخابات الرئاسية بنجاح، ليس لأنه اكتسح المرشح المؤيد له موسى مصطفى موسى، ولا لأن الساحة خلت تماماً من وجود أى منافس معتبر يمكن أن يهدد حظوظه، ولكن لأنه ربح المعركة ضد الغياب.. غياب المصوّتين عن الذهاب إلى الصناديق.
كانت معركة السيسى الحقيقية ضد الغياب وليس ضد منافس طامح إلى شغل المقعد الرئاسى، إذ كيف يمكنك إقناع الجمهور المؤيد بالذهاب إلى الصناديق للتصويت لك إذا كنت وحدك فى الميدان؟
ومع ذلك، فقد ذهب الناخبون المؤيدون بالفعل إلى الصناديق لأنهم يؤمنون أن السيسى «صاحب الإنجازات» الذى أنقذ البلاد من مصير سوريا وليبيا واليمن، وأطاح حكم «الإخوان» الذين أرادوا العبث بهوية البلد وتغييرها.
لو لم يفعل السيسى فى تاريخه السياسى سوى الانتصار لإرادة المصريين وتخليصهم من حكم «الإخوان» لكان ذلك كافياً لكى يحكم ولايتين رئاسيتين، بشرعية وتأييد لا تطالهما شكوك.
وفق ما أوضحته مؤشرات الفرز الأوّلية، وأعلنته وسائل الإعلام المحلية، فقد أدلى نحو 42% من الناخبين بأصواتهم فى الاستحقاق الرئاسى، ووفق ما أمكن للمتابعين المستقلين رؤيته ومعاينته فى اللجان الانتخابية بطول البلاد وعرضها، فقد ذهب المصوّتون، وشوهدت طوابير، وصدحت الأغانى، ورقص المؤيدون، وعلقوا صور الرئيس، وهتفوا له، واشتعلت وسائط التواصل الاجتماعى بصور وتعليقات لم يغب عنها المناصرون أبداً، وربحوا الكثير من منازلاتها.
وكما جرى فى سنوات الولاية الأربع الأولى، يبدو السيسى فى مقتبل ولاية جديدة من أربع سنوات أخرى، لا ينازعه أحد فى شرعيته، ولا يشكك أحد فى وجود قاعدة مؤيدين واسعة له، والأهم من ذلك أن المؤسسات المهمة فى البلاد كلها تُجمع عليه بإصرار.
تلك كانت الأخبار الجيدة بالنسبة إلى الرئيس ومؤيديه، لكن ثمة بعض الأخبار الأخرى التى تتعلق بجملة من التحديات الكبيرة التى يجب أن يواجهها الرئيس، وهى تحديات سترسم صورة الولاية الجديدة، وستحدد مسارها.
على عكس ما يعتقد كثيرون، فإن التحدى الإرهابى الذى يواجهه الرئيس ليس أسوأ التحديات أو أكثرها تعقيداً.
لا يجب أن نقلل من خطورة التحدى الإرهابى الذى تواجهه البلاد فى شمال سيناء، والذى يمتد فى أحيان كثيرة، وعلى فترات متباعدة، ليضرب فى الوادى أو فى الصحراء الغربية.
وعشية الانتخابات، عاد الإرهاب ليُذكّر بوجوده، حين استهدفت عبوة ناسفة، زُرعت تحت سيارة، موكباً لمدير أمن محافظة الإسكندرية، شمال البلاد، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد من رجال الشرطة.
ومع ذلك، فإن العملية الشاملة التى تخوضها القوات المسلحة فى سيناء تُبلى بلاء حسناً فى تعقُّب الإرهابيين وتدمير أوكارهم، وكما تشير بيانات المتحدث العسكرى، ووسائل الإعلام المحلية، فإن تلك العملية التى تتسم بقدر كبير من الجاهزية تواصل عملها باقتدار فى تحجيم هذا التحدى الإرهابى.
لا يبدو الإرهاب قادراً على رهن إرادة الدولة، أو تأطير إيقاع عمل المؤسسات، أو إخافة الجمهور، أو تعطيل ورشة العمل الوطنية التى تتجلى فى مشروعات تنموية تتوالى بوتيرة متسارعة.
يحظى السيسى بإجماع وطنى بين القطاعات الغالبة فى الجمهور والمؤسسات المختلفة فى معركة الإرهاب، وهو من خلال هذا الإجماع، وبسبب القدرة والجاهزية العالية للقوات النظامية، سيكون قادراً على حسم هذا التحدى، وتحجيم الخطر الإرهابى، ووضعه فى حده الأدنى فى فترة قليلة.
لكن التحدى الصعب حقيقة يتمثل فى الحالة الاقتصادية، فبعد سبع سنوات من الانتفاضة الأولى فى يناير 2011، ما زالت الدولة تدفع أثمان الانفلات والاضطراب الأمنى والمجتمعى الخطير المترتب على تلك الانتفاضة، والانتفاضة التى تلتها فى 30 يونيو 2013.
لقد أقدم الرئيس على قرارات اقتصادية خطيرة، مثل تعويم سعر العملة الوطنية، الذى أفقدها أكثر من نصف قيمتها، ورفع أسعار السلع الأساسية، وفرض المزيد من الضرائب، لمواجهة الاحتياجات الاقتصادية المتصاعدة، ومحاربة العجز المالى.
بسبب تلك القرارات تأثرت شعبية الرئيس بكل تأكيد، ورغم أن رؤساء سبقوه لم يكن باستطاعتهم اتخاذ مثل هذه القرارات الصعبة خوفاً على شعبيتهم، واتقاء للاحتجاجات والانتفاضات، فإنه أقدم على هذه القرارات بشجاعة تُحسب له.
استقبل الجمهور هذه القرارات الصعبة بتفهُّم واضح، ورغم معاناة الطبقات الأكثر احتياجاً، فيبدو أن القطاعات الغالبة قبلت هذه السياسات، باعتبار أنها دواء مُرٌّ يجب تجرُّعه لكى تخرج البلاد من عثرتها.
لكن ارتفاعات جديدة فى الأسعار أو فرض ضرائب إضافية سيكون تحدياً ضخماً فى مواجهة الرئيس، إذ يصعب جداً أن يتقبّل الجمهور المزيد من الضغط، وهو أمر سيتطلب سياسات حكيمة، ورسائل اتصالية فعالة، وجهداً كبيراً، لإبقاء الجمهور متقبلاً لضغوط جديدة.
ما زال كثير من المصريين يجهلون الطريقة التى ستتعامل بها الدولة مع تحدى المياه، خصوصاً أن إثيوبيا لا تبدو عازمة على التجاوب مع المطالب المصرية التى تريد ضمان ألا تتأثر حصة البلاد من المياه بعد تشغيل سد النهضة.
تكمن خطورة التحدى الذى يفرضه إنشاء سد النهضة الإثيوبى فى أنه يمس حياة المصريين نفسها، وأنه يهدد حصتهم التاريخية من المياه التى لم تعد تكفيهم بعد الزيادة الكبيرة فى أعداد السكان والتوسع الزراعى والعمرانى.
يواجه الرئيس فى ولايته المقبلة تحدياً خطيراً أيضاً يتعلق بملف الحريات وحقوق الإنسان، إذ تستهدف مصر مجموعة من السياسات والإجراءات والدول والمنظمات التى ترى أن المجال العام فى البلاد مغلق، وأن ثمة انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات، وهو أمر يبدو أكثر صعوبة بسبب استمرار التحدى الإرهابى الذى يفرض على السلطات اتخاذ قرارات معينة، يعتقد البعض فى المجتمع الدولى أنها تكرّس انتهاكات لحقوق الإنسان.
كل هذه التحديات تبدو صعبة، لكنها ليست مستحيلة، وسيكون بمقدور الرئيس أن يتخطاها ما دام يحظى بهذا التوافق النادر بين مؤسسات الدولة والقطاعات الغالبة فى الجمهور، لكن المعركة الخطيرة التى تنتظره تتعلق بقدرته على الوفاء بالاستحقاق الدستورى الذى ينص على مدتين رئاسيتين فقط، خصوصاً أن بعض الموالين وغلاة المؤيدين طرحوا فكرة تغيير الدستور غداة انتهاء الاستحقاق الانتخابى.
تواجه الرئيس فى ولايته المقبلة تحديات صعبة، لكن سجل خدمته يرجّح قدرته على اجتيازها.