ترددت كثيرًا، من أين أبدأ، وكيف أقدم كلمات بسيطة تعبر عن حب عميق وترابط أبدي، وخطر على بالي ذلك السؤال؛ هل من الضروري أن أكتب؟.. ثم تبعه إجابته على الفور: إننا نعيش كي نكتب، فلماذا لا نترك لأقلامنا العنان لتخط ما تشاء، فهي جزء منا أيضًا، أصبحت تعرف ما يدور ببالنا، ولا ينقصها إلا أن نضع قلوبها على الورق.. فتخلق مع كل نبضة كلمة، ومع كل دورة دم حكاية من حكاياتنا التي حملناها في طيات الذاكرة، حينما حزمنا حقائب الذكريات التي عشناها في مواطننا البعيدة حيث ولدنا وقضينا طفولتنا وفترة شبابنا الأولى.
هل من الواجبات الاجتماعية أن نقدم التهاني لإخوتنا من المسيحيين في مصر بأعيادهم.. الأمر ليس تأدية واجب أو غيره، فقد مصّرنا المناسبات والأعياد الدينية، فبات شهر رمضان مناسبة مصرية خالصة، كذلك شم النسيم وأحد السعف وباقي الأعياد الدينية، حتى أنني لا أجد أهمية للتفكير مليّا في الأمر.
وبمناسبة احتفال الكنيسة الوطنية المصرية بإحياء أسبوع الآلام، سأستدعي بعضًا من ذكرياتي مع شخصيات قبطية تأثرت بها خلال مراحل حياتي المختلفة، علّها تكون صورة من ألبوم انصهارنا في قالب واحد، هو مصر أولًا وحتى نهاية العالم.
وأبدأ بالراحل «عم مكين»، طبيب بلدتنا البعيدة في مجاهل المجاهل من صعيد مصر، كان العم مكين يمتلك حضورًا قويًا بابتسامة لا تغادر وجهه، وشارب أبيض يزيد وجهه المائل للحمرة وقارًا على وقاره. لم نكن نسمع حينها بانزلاق الغضاريف أو أمراض العمود الفقري؛ فيكفي أن يضع الرجل يده على مكان الألم ليبدأ عمله الذي لا يستغرق 40 ثانية، فتخرج من عنده صحيحًا مُعافى.
ولم يكن في قاموس الأمراض لدينا ما يعرف بـ«تمزق الأربطة»، فإذا التوى كاحلك وتورمت قدمك فما عليك إلا أن تبحث عن بيضة، وبعض الجبس، وقليل من شعر الماعز، مع شيفرة موس نظيفة.. العم مكين سيبدأ في الحديث معك ليحول انتباهك كليًا إلى أمر آخر، دقيقتين أو أقل ويجد الموس طريقه إلى مكان التورم وتخرج نقطتين من الدم الأسود، وبسرعة يستخدم العم مكين شعر ماعزك بديلًا عن الشاش الطبي، ثم يتبعه بطبقة من الجبس المخفوق ببيضة دجاجتكم.. أيام قليلة وتعود عفريتًا كما كنت، العب واسقط على كاحلك دون قلق، فالعم مكين موجود.
لم يكن العم مكين مجرد شخص عادي يمتلك بعض مهارات الطب الموروث من مصر الفرعونية، لكنه كان يحمل قلبًا يسع الجميع، وكانت نصيحته الدائمة لأبي: «يا إسماعيل؛ سلمان ابنك لازم يكمل تعليمه، ابنك مُعاق، ولا مكان له في هذا العالم القاسي دون تعليم يوصله مكانة تجعله محل تقدير». قد كان يا عم مكين، ولترقد روحك الطيبة في سلام.
أما مايكل أو سليمان، رفيق سنوات الجامعة، فحكاية أخرى من حكايات التلاحم، وهل الإخوة أكثر من أن أحبك كنفسي، وأن أجلس على طبليتكم وتجلس على طبليتنا، فتقوى الروابط، وتتوطد العلاقات، -بالعيش والملح-. ليس غريبًا أن أتصل بمايكل لأهنئه بعيد الفطر وعيد الأضحى المبارك، وأن أجده يتصل بي مُهنئًا بأعياد الميلاد والقيامة والغطاس.. ليس غريبًا لأننا في مصر.
ولم يكن الأستاذ جيورج، مدرس الرياضيات في مدرسة عرب القداديح الإعدادية، أو الأستاذ إيهاب، مدرس اللغة الإنجليزية بذات المدرسة، والأستاذ باسم، مدرس الأحياء في مدرستنا الثانوية، مجرد أشخاص التقيناهم في طرقات الحياة، ولم يكن عم ظريف، أو عم مكرم، أو عم عادل، أو شريف نجيب، وأسامة ظريف، وميلاد سعد، ورامز سمير، مجرد جيران، فتحنا أعيننا على الدنيا فوجدناهم حولنا.. بل هي مصر التي تسع الكون بكواكبه وأجرامه، وما يدور فيه من فضاءات، مصر التي علمتني أن أقول: «أصحابي يا مسيحيين.. كل سنة واحنا طيبين».