تركيا لا تعمل فى ليبيا منفردة، التناول المستقل لدور قطر والإخوان فى مقالنا السابق هو مجرد إطار، فرضته حدود المساحة، لكن ثلاثتهم يعملون معاً، تركيا تتولى التخطيط والخدمات اللوجيستية وإيواء القادة، قطر التمويل والدعم، والإخوان عملاؤهم على الساحة.. تلك حقيقة ينبغى تذكرها قبل التعرض للمؤامرة التركية على ليبيا.
تركيا كانت أول من بادر بتعيين سفير بطرابلس بعد سقوط «القذافى»، احتضنت الإخوان والميليشيات المتطرفة، وسعت لإسقاط الدولة، لكنها اضطرت لتعليق رحلات الخطوط التركية إلى طرابلس، بعد افتضاح دورها فى نقل الأسلحة والذخائر للميليشيات، وتهديد سلاح الجو الليبى بإسقاط أى طائرة تركية تحلق فى المجال الجوى، واضطرت فى النهاية إلى إغلاق السفارة 2014.. اتخذت خطاً علنياً مناوئاً لليبيا برفضها الاعتراف بالبرلمان منذ انتخابه، واستمرت قنصليتها بمصراتة فى العمل!!، حتى بعد إغلاق السفارة.. الساحة الليبية بالنسبة لها بدأت كميدان حشد للإرهابيين، لتدريبهم وتأهيلهم قبل دفعهم لسوريا، ومع هزيمة الإرهاب هناك تحولت إلى مركزٍ للاستقبال، وإعادة التوزيع على ميادين جديدة، مصر فى مقدمتها.
السلطات التركية استقبلت قادة الإخوان، والجماعات المتعاونة معها، ووفرت ملاذات آمنة، وتبنت أنشطتهم، وسمحت باستثمار ما نهبوه خلال الثورة من أموال الدولة الليبية فى مشاريع اقتصادية «عبدالحكيم بلحاج، خالد الشريف..»، ما يفضح تبنيها لعمليات غسيل الأموال، خلافاً لقواعد العمل الدولى.. والأخطر ما أكدته وفاة محمد الزهاوى، قائد جماعة «أنصار الشريعة»، بأحد المستشفيات التركية، متأثراً بإصابته فى معارك بنغازى، من تبنيها للتنظيمات التكفيرية، وإيواء وتوفير الرعاية الصحية لعناصرها.
رغم وفرة الأسلحة فى ليبيا، إلا أن عمليات التهريب التركية لا تتوقف، لتضمن تفوق التنظيمات المتعاونة معها، خاصة من حيث التسليح الشخصى، والمواد المستخدمة فى عمليات التفجير، تعدد عمليات الضبط تؤكد كثافة معدلات التهريب؛ جميعها سفن وأطقم تركية، حتى لو حملت أعلاماً أخرى، تنطلق من موانيها، وتستهدف الموانى التى تسيطر عليها الميليشيات فى درنة ومصراتة، والتفاصيل مشينة.. حمولة سفينة اضطرت للتوقف فى اليونان بسبب سوء الأحوال الجوية يناير 2013، أربع حاويات اعترضتها الجمارك المصرية ديسمبر 2013، سفينة دمرتها قوات «حفتر» قبالة سواحل درنة أغسطس 2014، باخرة كورية محملة بحاويات الأسلحة والذخائر اعترضتها السلطات الليبية أمام سواحل مصراتة ديسمبر 2014، وأخيراً سفينة الشحن التركية «أندروميدا» وعلى متنها 29 حاوية محملة بـ410 أطنان من نترات الأمونيوم والمتفجرات التى احتجزتها اليونان بميناء «بيرايوس» يناير 2018، بعد مغادرتها إستانبول تحت إشراف ممثلين للمخابرات التركية والجماعة الليبية المقاتلة، فى طريقها لكتائب الجماعة الإسلامية المتشددة بمصراتة، الحادث تزامن مع عمليات نقل الإرهابيين من تركيا إلى ليبيا، والاستعداد لمعركة الاستيلاء على طرابلس العاصمة، ومحاولة إفساد الانتخابات المقبلة، حال التأكد من انعدام فرصة عودة الإسلام السياسى من خلالها.. البحرية اليونانية، بعد التعاون الاستراتيجى الذى تم تأسيسه مع مصر، أضحت تمارس مراقبة متقدمة على السفن التركية المتجهة إلى ليبيا.. قوة مصر وعلاقاتها أضحت تمثل هاجساً لتركيا، حتى على مقربة كيلومترات قليلة من سواحلها.
تركيا لا تكتفى بمعارك الداخل الليبى، وإنما تحاصرها من الخارج بتحركات نشطة؛ زيارة «أردوغان» للخرطوم ديسمبر 2017 استهدفت الاتفاق على عمليات نقل الإرهابيين من تركيا إلى السودان، تمهيداً لدفعهم إلى جنوب ليبيا، اصطحب معه رئيس الأركان، ولحقه رئيس الأركان القطرى، ليتفقا على التفاصيل اللوجيستية مع رئيس الأركان السودانى، ما يفسر تشغيل تركيا خط نقل جوى وآخر بحرى إلى السودان، وكانت أول دولة تعيد فتح سفارتها بطرابلس يناير 2017، بعد غياب ثلاث سنوات، لتتمكن من متابعة معدلات تنفيذ مخططاتها من داخل الميدان.. «أردوغان» أعقب ذلك بجولة أفريقية شملت السودان، تشاد، وتونس ديسمبر 2017، ثم جولة أخرى للجزائر، موريتانيا، السنغال، ومالى فبراير 2018.. هذه الدول تشكل الطوق المحيط بليبيا، والمؤثر على الاستقرار فيها، ما يعكس مدى أهمية ليبيا لتركيا فى المرحلة الراهنة، باعتبارها ملاذاً آمناً للعناصر الإرهابية التى ارتدت للداخل التركى بعد هزيمتها فى العراق وسوريا، قبل دفعها لمصر ودول الساحل والصحراء، ما قد يفرض استغلال الحدود المشتركة لبعض جيرانها، وربما إزعاج البعض الآخر، وهو ما يوجب الترطيب المسبق للعلاقات السياسية، وضخ استثمارات إضافية تقيد ردود فعلها.
ثلاث قضايا تحظى بأولوية اهتمام تركيا حالياً؛ الأولى: الخلاف بين الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة، رغم أنه خلاف قديم، لم يهدأ إلا بسبب الحرب ضد «حفتر»، ولكن بعد طرد الأخيرة من بنغازى، ولجوئها لطرابلس، وجدت الإخوان قد انحازوا لحكومة «السراج»، فتجدد القتال، الظروف الراهنة تفرض الوحدة، ما دعا تركيا وقطر إلى جمع ممثليهم فى إستانبول سبتمبر 2017، لتحقيق الصلح، تجنباً لانعكاس الخلاف على ثقل الإسلام السياسى خلال الانتخابات المقبلة، خاصة أنهما يراهنان على دعم مرشح يعيد الإسلام السياسى إلى المشهد.. الثانية: الأوضاع فى مصراتة تشكل هاجساً مزعجاً، لأنها تتجه نحو التدهور، نتيجة للصراع بين الجماعات المتطرفة الموالية للمفتى المعزول، الصادق الغريانى، ومجموعة «التيار المعتدل»، محمد اشتيوى، عميد البلدية، تم اغتياله نهاية 2017، ومدير الأمن المستقيل حذر من هيمنة المتطرفين على المدينة، وفتح الطريق لـ«داعش»، وهو ما دفع تركيا للتفكير فى فتح جبهة طرابلس، لحشد الميليشيات، ووضع حد لاقتتال مصراتة.
الثالثة: الانتخابات الرئاسية، التى توافق «حفتر» و«السراج» على سرعة إجرائها، تركيا تدرك من خلال التجربة المصرية أن الانتخابات تخلق شرعية جديدة، لا تجدى معها المنازعة بشرعيات سقطت، لذلك تحاول أن تدفع للانتخابات أحد الوجوه التى تحظى بالقبول، وتعيد الإخوان للمشهد، لكنها تتحسب لصعوبة ذلك بإعداد البديل، وهو منع إجراء الانتخابات باختطاف طرابلس، حتى تفقد أى انتخابات لا تجرى فى العاصمة مشروعيتها، وذلك بتعبئة ميليشيات من مصراتة، الزاوية، الجبل الغربى، وصبراتة، ومسلحى سرايا الدفاع عن بنغازى، للمشاركة فى هجوم يستهدف إحكام السيطرة عليها، وتراهن فى ذلك على حكومة الإنقاذ المنبثقة عن المؤتمر المنتهية ولايته، لذلك كلفت شركة الراية الخضراء، التابعة للمخابرات السودانية، بشحن أسلحة للميليشيات، بعيداً عن مراقبة اليونان ومصر لسواحلهما، والبحرية الأوروبية للسواحل الليبية، حتى تتمكن من حسم المعركة، قبل تدخل أى أطراف خارجية، الخطط المتعلقة بذلك تم بحثها فى إستانبول والدوحة مع عدد من قيادات الإخوان، كان أبرزها لقاء «السويحلى»، رئيس المجلس الأعلى للدولة، مع وزير الدفاع القطرى مارس الماضى.. إعلام الدوحة بدأ بث خطة التشكيك فى جدوى الانتخابات.. مثلث الشر «قطر، الإخوان، تركيا» يوجع قلوبنا كل يوم بالجديد، ومن سخرية القدر أن الجيوش الصامدة، أمام محاولاتهم لإسقاطها، هى من تضمد جراحنا.. فهل تفلح مصر فى توحيد الجيش الليبى؟!.. لقاؤنا الجمعة المقبل.