وتُواصل مسودة مشروع دستور 1954 نصوصها العصرية، ففى باب السلطات نصّت على أن البرلمان يتكون من مجلس النواب ومجلس الشيوخ (الشورى فيما بعد).
وقد نصّت المادة 56 على أن «الأمر الصادر بحلّ مجلس النواب يجب أن يشتمل على دعوة الناخبين لإجراء انتخابات جديدة فى ميعاد لا يتجاوز شهرين وعلى تحديد ميعاد لاجتماع المجلس الجديد فى الأيام العشرة التالية لتمام الانتخابات، فإذا لم يشتمل الأمر على ذلك كله، كان باطلاً وبقى مجلس النواب قائماً. وإذا انقضى ذات الميعاد دون إجراء انتخابات جديدة، أصبح أمر الحل كأن لم يكن، وعاد البرلمان إلى الاجتماع من تلقاء نفسه فى اليوم التالى لانقضاء الميعاد».
ويتميز هذا النص بأنه ليس فقط نصاً إلزامياً ولكنه وضع آلية لتنفيذه بمواعيد لا تقبل التفسير وكذلك وضع جزاء على عدم الالتزام بدقة هذه المواعيد باعتبار أمر الحل كأن لم يكن وبعودة البرلمان للانعقاد، وبذلك يكون الدستور قد قطع الطريق على أى محاولة للتلاعب من السلطة التنفيذية بادعاء أن المواعيد المنصوص عليها فى الدستور نصوص تنظيمية لا يترتب على مخالفتها البطلان ويكون الدستور قد جنّب البلاد أى شبهة لوجود فراغ فى السلطة التشريعية والرقابية.
وبالنسبة لمجلس الشيوخ نصّ على أنه يتألف من مائة وخمسين عضواً، ونتأمل كيفية تشكيل المجلس بنص عبقرى حديث يضمن وجود مجلس قوى يؤدى دوره التشريعى بكفاءة بعيداً عن تحكم السلطة التنفيذية أو تلاعبها ويضمن فى ذات الوقت أن يضم المجلس كفاءات تستطيع القيام بالمهام التشريعية باقتدار، فقد نصت المادة 57 على أن «يتألف مجلس الشيوخ من:
(أ) تسعين عضواً يُنتخبون بالاقتراع السرى المباشر.
(ب) ثلاثين عضواً تنتخبهم من بين أعضائها النقابات واتحادات نقابات العمال والغرف والهيئات التى تنظم المشتغلين بالزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والمهن الحرة وغيرها من الأعمال التى تقوم عليها مصالح البلاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويُعيّن قانون الانتخابات هذه الهيئات والعدد الذى يخصص لكل منها والإجراءات التى تُتبع فى انتخابات هؤلاء الأعضاء.
(ج) ثلاثين عضواً يعينهم رئيس الجمهورية من أصحاب الكفاءات العلمية والفنية ويُختارون من بين رؤساء الوزارات والوزراء الحاليين والسابقين ورؤساء مجالس النواب السابقين والنواب الذين قضوا فصلين تشريعيين فى النيابة وأعضاء مجلس الشيوخ السابقين وكبار العلماء والرؤساء الروحانيين والمستشارين ومن فى درجتهم من رجال القضاء الحاليين منهم والسابقين والضباط المتقاعدين من رتبة لواء فأعلى وأعضاء مجالس المديريات والمجالس البلدية الذين قضوا ثلاث مدد فى مجالسهم والموظفين من درجة مدير عام فأعلى وأساتذة الجامعات الحاليين منهم والسابقين».
فحق رئيس الجمهورية فى تعيين أعضاء مجلس الشيوخ ليس مطلقاً وإنما اختياره مقيداً بالفئات والكفاءات المنصوص عليها فى النص ولا يجوز له التعيين من خارجها كما رأينا فيما بعد سلطة «السداح مداح» فى التعيين من قبَل رئيس الجمهورية، مما كان له أكبر الأثر فى فشل تجربة مجلس الشورى الذى كان مجلساً شكلياً لاستكمال الديكور مما أفقده ثقة الجماهير فلم تخرج حتى لانتخاب أعضائه.
كما نصّت المادة 76 من المسوّدة على حد أدنى من حضور الأعضاء ونصاب لا يمكن أن يُتخذ قرار إلا إذا حضر الجلسة أغلبية أعضائه، وفى غير الأحوال المشترط فيها أغلبية خاصة تصدر القرارات بالأغلبية المطلقة للحاضرين، وعند تساوى الآراء يُعتبر الأمر الذى جرت المداولة فى شأنه مرفوضاً. وهذا النص يقضى على ما كان يتم من عبث بتمرير قوانين هامة أو التصديق على معاهدات دون وجود أغلبية أعضاء المجلس، ورأينا قوانين يتم تمريرها ليلاً، نتيجة لضعف النص الدستورى من ناحية أو عدم الاهتمام بتطبيق النصوص الدستورية وعدم وجود جزاء على مخالفتها من ناحية أخرى.
أما رئيس الجمهورية فقد نصت المادة 91 على أن انتخابه يتم على درجتين بما يضمن حسن الاختيار، فتُنتخب أولاً هيئة الناخبين والتى تقوم هى بانتخاب رئيس الجمهورية فتنص المادة على أن «رئيس الجمهورية تنتخبه بالاقتراع السرى هيئة مكونة من أعضاء البرلمان منضماً إليهم مندوبون يبلغ عددهم ثلاثة أمثال الأعضاء المنتخبين فى المجلسين فتنتخب كل دائرة من دوائر مجلس النواب وكل دائرة من دوائر مجلس الشيوخ وكل هيئة أو نقابة ممثلة فى مجلس الشيوخ ثلاثة مندوبين عنها وينظم القانون إجراءات انتخاب الهيئة وينظم القانون إجراءات الانتخابات، ومدته خمس سنوات، ولا ينتخب أحد للرياسة أكثر من مدتين».
وهذه الطريقة فى الانتخاب تضمن حسن اختيار رئيس الجمهورية فأعضاء هيئة الناخبين -كما نرى- لن يتأثروا بشعارات كاذبة ولن تُغريهم أموال ولن يُغرر بهم أو ينخدعوا بشعارات دينية ولن تدفعهم عصبية قبلية ولن يقفوا على الأعتاب فى انتظار الهبات والمعونات والمواد التموينية التى تخدع البسطاء، وهذا النظام الانتخابى لرئيس الجمهورية يماثل طريقة انتخاب الرئيس الأمريكى اليوم.
وتفصّل المادة 54 مسئولية رئيس الجمهورية فنصت على أن «رئيس الجمهورية مسئول جنائياً عن الخيانة العظمى وانتهاكه حرمة الدستور واستغلال النفوذ عن الجرائم الأخرى التى يعاقب عليها القانون. ويكون اتهامه والتحقيق معه بقرار من أحد مجلسى البرلمان بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم وتكون محاكمته أمام المحكمة العليا الدستورية، وذلك وفقاً للأحكام والإجراءات التى ينص عليها القانون. وإذا حُكم عليه فى جريمة الخيانة العظمى وانتهاك حرمة الدستور واستغلال النفوذ أو فى جريمة مخلة بالشرف أُعفى من منصبه مع عدم الإخلال بالعقوبات الأخرى».
وأوجب مشروع دستور 54 عند حل مجلس النواب تشكيل وزارة محايدة لإجراء الانتخابات، فتنص المادة 103 على أن «لرئيس الجمهورية حق حلّ مجلس النواب. ويترتب على الأمر الصادر بحل مجلس النواب استقالة الوزارة، ويدعو رئيس الجمهورية رئيس مجلس الشيوخ لتأليف وزارة محايدة لإجراء الانتخابات».
ومطلب الحكومة المحايدة لإجراء الانتخابات تناضل من أجله جميع القوى السياسية منذ عقود ويمثل لها حلماً عزيز المنال لم تتمكن من تحقيقه فى كل العهود وبمختلف وسائل الضغط السياسية والشعبية. نقول إن هذا المطلب المستحيل فى 2013 كان حقاً دستورياً فى 1954.
ألا يدعو هذا الأمر للرثاء لما آلات إليه حياتنا السياسية والدستورية من تدهور؟