حدث إغراق مخل فى قراءة السيرة النبوية حين قُدمت فى صورة غزوات وحروب، ومع أن الغزوات تحدث عنها القرآن بما يعنى عظمتها وأهميتها، فإن حصر السيرة فيها فقط يحرمنا من استشعار الأبعاد الحضارية للسيرة.. أبعاد البناء والعمران والنهضة والتنمية والتطور والتعارف والجمال والتعايش.
والعمران الذى هو أساس السيرة عبارة عن مجموعة من الحرف والمهن المنتظمة، ثم مجموعة العوامل التى أُضيفت إلى كل حرفة على الوجه الأكمل، وبالتأكيد جرت المهن مجرى النشوء الطبيعى حتى بلغت السمو. ومن المهن التى اهتم بها الرسول الكريم، إضافة إلى ما ذكرناه فى المقال الماضى، مهنة المعلمين، والفقهاء، والقادة، وعمال الكهرباء، وعمال المساجد، وخبراء الحروب، والمسئولين عن الحج، والبريد، والكبراء الذين كانوا يقومون بالصلح بين الناس، والشعراء، وكاتب الديون، وكاتب الجيش والقضاة، وفارض المواريث، وصاحب العسس (الشرطة)، والسجان، والممرضات، والجراحين، وحفَّار الطرق والخنادق، والزراعة والمزارعين، وأباح أخذ العلم عن الكفار، واستحسن تنوير المسجد من تميم الدارى وهو غير مسلم، وقرر وجوب حفظ الأبدان، وفى «الدر المنثور» للسيوطى فسر آية: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» بأنها حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمى، وانظر كتاب «الخراج» لابن رجب، و«رسائل النبى إلى الملوك» لابن حديدة، فضلاً عن الكتابين المهمين اللذين نقلت منهما: «تخريج الدلالات السمعية» للخُزاعى، و«التراتيب الإدارية فى العمالات والصناعات» للكتَّانى.
وكل هذه المهن أُسندت للأكفاء، ولم يكن فيها وساطة ولا محسوبية، ولها شروط وآداب، فمن شروط البناء ما جاء فى قوله: «لا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح، ولا تؤذه بريح قدرك»، ومن تأمل هذه الشروط وما بثه رسول الله من طرق التعليم والتمازج وتهذيب النفوس علم أن التمدن الإسلامى قام إبان عصر النبوة.
ولذلك فإن الذين دوَّنوا تاريخ المدنية فى الإسلام نسبوا التمدن للعهد الأموى والعباسى، وذهب البعض إلى أن التمدن الإسلامى قام (عن) الشريعة ولم يقم (معها)، وهو غلط فادح؛ نتيجة الجهل بالعمران فى السيرة، كما غلط ابن خلدون حين قال: إن الملة لم يكن فيها صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما كان فيها أحكام الشريعة من أوامر ونواهٍ.
والحاصل أننا فى حاجة إلى تنقية وتحرير السيرة من القراءة التنظيمية السياسية الأيديولوجية الصدامية، ومن القياس المغلوط الذى تقوم به التيارات المنحرفة بين سيرة النبى وواقع المسلمين.
لذا علينا تحطيم فكرة أن السيرة النبوية ستكرر فى الوقت المعاصر بأحداثها، إنما كل ما هنالك أن منهجية النبى وسنته هى الباقية التى نستمد منها العون والمدد والهدى، وانظر إلى كتاب «المنهج الحركى للسيرة النبوية» للإخوانى منير الغضبان، حيث حوَّل السيرة وأحداثها إلى منهج حركى تنظيمى يخدم جماعة الإخوان، لأجل هذا قام باحثون بتأليف كتاب فى غاية الأهمية لتنقية السيرة النبوية من هذا التشويه، عنوانه: «محاولة فى تحرير السيرة النبوية من القراءة الدينية التنظيمية» لرشا عبدالواحد، وحمدى رزق حمادة، ومحمد عبدالعال عيسى، والكتاب صادر عن دار سما.