(1)
يُطلِق كل متطرف على نفسه وَصْفَ «الشيْخ»، ويُطلق كل إرهابى على نفسه.. وَصْفَ «القائد»!
يتصدّر المشهد عددٌ كبير من الجهلاء الذين تحوّلوا.. من «الجناية» إلى «الدعوة» ومن «الجريمة» إلى «الجهاد»!
ومن النادر أن يكون أحدهم حافظاً للقرآن الكريم أو عارفاً بعلمِ الحديث.. أو مطلعاً على علوم الفقه أو أصول الدين.. وقد اعتاد الماهرون منهم أن يردِّدوا على مسامع الحضور عدداً من أسماء السابقين، وحفنةً من العناوين.
وحين يتأمل المرء ما يقولون.. يجد أنهم يدورون فى الفلك ذاته من الكلمات والعبارات.. وهى فى مجملها -إذا ما تم حذف التكرارات- لا تزيد على مئات الكلمات التى يجرى إعادة تدويرها فى كل خطاب.
إن القراءة الجادة فى علوم الإسلام إنما تحتاج إلى أعمارٍ وأعمارٍ.. فكيف يمكن أن يتحصّلها مجرمٌ لمجرَّد أنه قرر أن يتوب.. إن التوبة لا تعنى المعرفة.. وإن الثرثرة لا تعنى الدعوة.. وإن سرقة الميكروفون لا تعنى امتلاك ناصية الكلام.
(2)
لقد اتسمتْ تجاربُ التطرف الدينى كلها بفقر الفكر، وضحالة المعرفة.. واتسم أعضاؤها جميعاً بالكثير من القول، والقليل من العلم.
يدرك قادة التطرف.. أنه لا وقتَ للعلم.. ذلك أن قراءة عشرة كتب كبرى فى علوم الدين، قد يستغرق حياة القادة بكاملها.. وهو ما لا يدع وقتاً للصراع على الثروة والسلطة.
كما أنهم يدركون أن العِلم لا شعبيَّة له، وأن الجهلَ قادرٌ على اجتذاب الملايين.. إنهم يدركون أن المعرفة الرصينة لن تتجاوز آحاد الناس.. أمّا الكلمات الحارّة والعبارات الصادمِة.. فمن شأنها أن تهزّ القلوب، وتجْمعَ القطيع.
هنا تتأتى القيمة المعرفية العليا والمكانة الفكرية الرفيعة.. لعميد المفسِّرين وإمام الدعاة.. العالم الموسوعى الشيخ محمد متولى الشعراوى.
ألغى الشيخ الشعراوى معادلة: التطرف الذى يحظى بالتأييد، والجهل الذى يستقطب العامّة والغوغاء. ونجح فى أن يكون للعلم شعبية.. وللمعرفة معجبون ومؤيدون.
(3)
ولد الشيخ محمد متولى الشعراوى فى قرية دقادوس مركز ميت غمر محافظة الدقهلية عام 1911.. وعبْر رحلته الماجدة اكتسب خبرات إدارية وعلمية رفيعة.. عمل فى التدريس فى معاهد طنطا والزقازيق والإسكندرية.. وأستاذاً فى جامعات السعودية والجزائر، ومديراً بوزارة الأوقاف ومديراً لمكتب شيخ الأزهر حسن مأمون.. ثم وكيلاً للأزهر الشريف.. ليختتم حياته السياسية والإدارية وزيراً للأوقاف.
بالتوازى مع ذلك.. لمع نجم الشيخ الشعراوى.. رئيساً لاتحاد الطلاب، ورئيساً لجمعية الأدباء.. ومتظاهراً فى صفوف الوفد.. وحاضراً فى لقاءات مصطفى النحاس باشا.. وقريباً ثم بعيداً من حركات الإسلام السياسى.
حاز الشيخ الشعراوى شهرةً فائقةً فى عهد الرئيس السادات.. ثم أصبح لاحقاً أشهر داعية إسلامى فى العالم. وحسب «يوهانس يانسن» فإنَّهُ فى عام 1980 كان فى أكشاك الكتب فى القاهرة (35) كتاباً للشيخ الشعراوى.. يزيد إجمالى عدد صفحاتها على أحد عشر ألف صفحة.
(4)
كان الشيخ الشعراوى يظهر على التليفزيون أكثر من السادات نفسه.. هكذا تحدث المستشرق الهولندى يوهانس يانسن (1942- 2015) فى دراسة نقدية مطولة لإمام الدعاة.
قرأت ترجمة الدكتور حمد العيسى لدراسة «يانسن».. وأعجبتنى الجديّة التى اتسمت بها.. غير أن المنهج العام لها.. لم أجد فيه ما يثير الإعجاب.. ذلك أن المستشرق الهولندى الذى أجاد اللغة العربية، وعمل مديراً للمعهد الهولندى فى القاهرة.. كان عدائياً على طول الخط - وكانت اجتهاداته كلها فى سياق واحد: أخطاء الشيخ الشعراوى.
فى السياق نفسه، مضى باحثون غربيون يَرَوْن فى المشروع الفكرى للشيخ الشعراوى تراجعاً عن المشروع الفكرى للإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغانى.
يأخذ نقّاد الشيخ الشعراوى عليه.. أنَّه لم يقدِّر العلم الغربى وإبداع العقل الحداثى بالشكل الكافى.. كما يأخذون عليه الموقف السياسى من هزيمة 1967. ويأخذ نقّاد الشيخ عليه أيضاً بعض الفتاوى التى حملت قدراً كبيراً من التعسير.
لكن الملاحظات على أداء الإمام لا تمثِّل شيئاً أمام بحر فضائله ومحيط حسناته.. كان الإمام الجليل فيلسوفاً إسلامياً بامتياز.. وحين دخل معارك فكرية مع كبار أدباء وفلاسفة مصر: توفيق الحكيم وزكى نجيب محمود ويوسف إدريس.. لم يلجأ إلى التكفير.. أو التجريح.. وانتهت المعارك بينهم.. بكلمات دافئة وتقديرٍ متبادل.. كما أن الأستاذ توفيق الحكيم تراجع فى معركته مع الشيخ الشعراوى.. وقام بتعديل حلقاته من: «حديث مع الله» إلى «حديث إلى الله».. ثم إلى «حديث إلى نفسى».. أمّا الدكتور يوسف إدريس فقد كتب فى الأهرام.. محيياً ومقدِّراً.
(5)
حظى الشيخ الشعراوى باهتمامٍ واحترامٍ غير محدود.. ولا تزال كتب الإمام التى حررها تلاميذه ومحبّوه.. فى مقدمة الإنتاج الفكرى الإسلامى.. ومؤخراً تمت إعادة طباعة كتابه الشهير «الأدلة المادية على وجود الله» لمواجهة موجة الإلحاد المتصاعدة عالمياً.
كما لا يزال مسلسل «إمام الدعاة» الذى قام ببطولته الفنان حسن يوسف يحصد مشاهدات عالية على امتداد العام.. وفى كلّ مرات العرض. وقد أصبح حديث الشيخ الشعراوى جزءاً من المكونات الثابتة ليوم الجمعة لدى عشرات الملايين من المشاهدين.
وقد أحسن مجلس أمناء مؤسسة الشيخ المسلمانى الخيرية بالإعداد لندوة موسعة بالتعاون مع مؤسسة الشيخ الشعراوى الخيرية.. إحياءً للذكرى العشرين لرحيل الإمام الجليل.
إن الشيخ محمد متولى الشعراوى.. هو عميد المفسرين فى القرون الأخيرة.. وركيزة كبرى من ركائز القوة الناعمة.. وبقاؤه بيننا.. شاشةً وكتاباً.. هو بقاءٌ لقيم الوسطية والتسامح.. هو بقاءٌ للعلم والخير.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر