على مدى الأيام الماضية، طالعتنا «الوطن» الغرّاء بتغطية ميدانية استثنائية من الأراضى السورية، وفى تلك التغطية أجرى الزميل «أحمد العميد» عدداً من المقابلات الصحفية المميزة مع أفراد انتموا إلى تنظيم «داعش»، ومارسوا أعمال القتال بين صفوفه، قبل القبض عليهم، وإيداعهم السجون.
لقد قرأت تلك المقابلات بعناية، وحاولت استخدام ما سبق أن تعلمناه فى دراستنا للإعلام من أدوات لتحليل المضمون، بما يتيح رصد إجابات العناصر «الداعشية»، وتصنيفها، وتحليلها، ومحاولة استخلاص مؤشرات عامة منها، يمكن أن تدلنا إلى الطريقة التى تم من خلالها صناعة هذا القدر الهائل من التوحش، فى المناطق التى هيمن عليها «داعش» فى أراضى سوريا والعراق.
لا يمكن ذكر مصطلح «التوحش» دون الإشارة إلى كتاب «إدارة التوحش»، الذى يُنظر إليه باعتباره «أيديولوجيا (القاعدة)» و«دستور (داعش)».
يشرّح كتاب «إدارة التوحش» الفكر الأيديولوجى لتنظيم القاعدة، لكن خبراء يعتقدون أنه يجسّد الدستور الذى اتبعه تنظيم «داعش» فى المناطق التى نجح فى السيطرة عليها.
ويقع هذا الكتاب فى 113 صفحة ضمّنها الكاتب ستة مباحث وعشرة فصول ومجموعة من المقالات، التى قدمت بالشرح والتفصيل رؤية «القاعدة» لكيفية إدارة المناطق التى تسيطر عليها وما ترى أنه «واقع الأمة الإسلامية».
مؤلف الكتاب يُدعى «أبوبكر ناجى»، وهو شخصية غامضة لا يُعرف ما إذا كانت حقيقية أم اسماً مستعاراً، لكن الأكيد أن «داعش» استخدم الكثير من الأفكار الواردة فى كتابه خلال ممارساته العملية.
فإذا كان هذا الكتاب يتحدث عن «إدارة التوحش»، فكيف تمت صناعة هذا «التوحش»؟
هنا تظهر أهمية بعض المحاولات التى جرت من قبَل باحثين وصحفيين حاولوا تقصّى الطرق التى تم من خلالها «زرع الوحش الداعشى» فى المناطق التى سيطر عليها.
من بين تلك المحاولات ما قامت به الصحفية الفرنسية «آنا إيريلى»، من خلال كتابها المهم «فى جلد جهادى.. صحفية صغيرة تدخل شبكة التجنيد فى (داعش)»، الصادر عن دار «نيويورك هاربر كولينز»، فى 2015.
فقد انتحلت «آنا»، كما تقول، شخصية فتاة فرنسية صغيرة تسعى إلى الانضمام لـ«داعش»، وتواصلت إلكترونياً مع من وصفته بأنه «قيادى عسكرى مقرّب من البغدادى».
تلخص الصحفية الفرنسية تجربتها بالقول إن القيادى «الداعشى» المفترض بدأ معها بإغراءات الانضمام إلى التنظيم، والعيش كـ«مسلمة حقة فى البلد المسلم الوحيد، عوضاً عن البقاء فى ديار الكفر»، قبل أن يعرض عليها الزواج، ويجذبها بالحديث عن «حياة مهمة، تتحقق من خلالها، فى أجواء من المغامرة».
ثم تحكى كيف أن هذا القيادى رسم لها مخططاً تستطيع من خلاله أن تصل إليه فى البلدة التى يقيم فيها داخل الأراضى السورية، كما أمدّها بأرقام هواتف لأشخاص سيقومون بمساعدتها فى كل نقطة تصل إليها خلال رحلتها.
عندما قرأت الحوارات التى نشرتها «الوطن»، يوم الأربعاء الماضى، تأكدت من صدق كل كلمة أوردتها «إيريلى» فى كتابها المميز؛ إذ كانت إفادات «الدواعش» الثلاثة الذين أجريت معهم المقابلات متطابقة مع ما أتت به تلك الصحفية المغامرة.
ومن خلال تحليل إجابات «الدواعش» الثلاثة يظهر لنا أن طريقة إعداد «التوحش» كانت سهلة وبسيطة، إلى حد أنه يمكن اختصارها فى ثلاث كلمات على هذا النحو: «الإنترنت، داعية متطرف، تركيا».
لقد اتفق «الدواعش» الثلاثة؛ وهم نواف سيف، البحرينى، ومحمد أبوشعيب، الفلسطينى، وعلى شاكمه، التركى، على أن تجنيدهم بدأ من خلال شبكة «الإنترنت».
ويوضح الثلاثة كيف أنهم استطاعوا التعرف إلى الفكر «الداعشى»، وتمت استثارة حماستهم، و«استنفار غيرتهم على الدين»، وتحريضهم على الذهاب إلى «الجهاد» من خلال إصدارات التنظيم الإعلامية، التى اطلعوا عليها بكثافة فى بلدانهم.
والواقع أن «داعش» امتلك استراتيجية إعلامية متكاملة، وتلك الاستراتيجية حولت القدرات الاتصالية التى يمتلكها التنظيم إلى «أداة قتال رئيسة»، ويمكن القول إن تلك الأداة بالذات كانت الأكثر فاعلية ونجاعة بين الوسائل المختلفة التى استخدمها لتحقيق أهدافه.
لقد أوضحت دراسات عديدة أن «الإنترنت» كانت المرتكز الأساسى لاستراتيجية التنظيم الإعلامية، التى تنوعت وسائلها، ونجحت ببراعة فى إنجاز عمليات الاستقطاب، والتجنيد، والاتصال الميدانى، والتعبئة، والتدريب، وإصدار التكليفات، وصولاً إلى تنفيذ العمليات الإرهابية.
أما الخطوة الثانية فى طريق إعداد «التوحش» الذى كشفته الحوارات الثلاثة المشار إليها، فليست سوى «الدعاة المتطرفين» فى بعض المساجد، فقد التقى «الدواعش» العتيدون قيادات من المتطرفين والإرهابيين الذين برزوا فى صورة دعاة، استغلوا عواطفهم الدينية ومعرفتهم الضيقة بشئون الدين، وبثوا فيهم الرغبة فى الانتقال إلى سوريا والعراق لـ«الجهاد».
أما الخطوة الثالثة على طريق «التوحش» فليست سوى تركيا/ أردوغان؛ فها هو نواف سيف، يخبر محرر «الوطن» بأنه بات «مجنداً» لدى «داعش» عبر «الإنترنت»، ومن خلال تردده على أحد المساجد فى بلده البحرين، حتى سُمح له بالسفر إلى «غازى عنتاب» فى تركيا، ومنها إلى جرابلس السورية، لينضم إلى معسكر «الدواعش» فى الرقة.
أما شعيب الفلسطينى، فيقول إنه سافر إلى تركيا، ومنها إلى جرابلس، حيث كانت الطريق «سهلة جداً» بحسب وصفه، الذى لا يختلف عن وصف زميله التركى «شاكمه»، الذى ذهب أيضاً إلى الحدود التركية، ومنها إلى ذات المدينة السورية جرابلس، قبل أن ينضم إلى معسكر الرقة.
ارتكب «أردوغان» جريمة كبيرة بحق الإسلام، وسوريا، وبحق هؤلاء الشبان المغرَّر بهم، وبحق الإنسانية أيضاً، حينما استخدم حدود بلاده الممتدة مع جارتها سوريا من أجل تمرير «الدواعش» ليعيثوا فساداً فى هذا البلد، ويصنعوا عالمهم المتوحش.
لا يمكن القول إن «أردوغان» لم يكن يدرى بتدفق المقاتلين عبر أراضى بلاده، بل على العكس من ذلك، فثمة أدلة على أنه سهّل انتقال هؤلاء، وحضّ على ذلك، وأنشأ شبكات من رجال الاستخبارات والمهربين، الذين ساعدوا فى انتقال الإرهابيين الجدد من أوروبا والشرق الأوسط ومناطق أخرى فى العالم إلى سوريا والعراق.
لا يمكن ضمان القضاء على التوحش مجدداً إلا من خلال معالجة طرق إعداده، التى ظهر أنها «الإنترنت» الداعمة للإرهاب، والدعاة المتطرفون، والقادة الانتهازيون غير الأخلاقيين.