تعبير الكوتة أو الحصة المحددة سلفا بدأ يفرض نفسه على الحوار الخاص بالدستور الجارى وضعه، مرة للشباب ومرة ثانية للمرأة ومرة ثالثة للأقباط. وعلينا أن نعترف أن التفكير فى الكوتة فى البرلمان أو فى الوظائف العامة -خاصة للأقباط- هى مسألة مثيرة للالتباس وتفتح أبوابا جديدة للتوتر المجتمعى، فى غمار لحظة تاريخية هى بطبيعتها مليئة بكل أنواع التوتر والتشرذم والانقسام والخلافات الحميدة وغير الحميدة.
ولعل هذا الفهم هو الذى دفع البابا تواضروس، وفقا لما نسب له فى اجتماع ضم بعض رجال الأعمال المسيحيين، للمطالبة بعدم استخدام تعبير الكوتة فى الشأن القبطى لما له من أثر سلبى على الأقباط أنفسهم. لكن طبعا هناك من أعاد تفسير ما قاله البابا تواضروس باعتباره ليس نفيا لفكرة الحصة المحددة سلفا، ولكن التأكيد عليها وفق تعبير آخر وهو التمييز الإيجابى ولو لفترة زمنية محددة ومن خلال نظام القوائم وبحيث يكون المرشحون الأقباط فى الثلث الأول من القائمة وبما يضمن فوزهم بمقاعد برلمانية، حتى يعتاد المصريون جميعا وجود أقباط فى البرلمان وفى المناصب القيادية العليا وهكذا.
وعلينا أن نعترف ثانيا بأن الأقباط يتعرضون لكم من الإيذاء النفسى والمادى يختلف مداه وفقا لطبيعة البيئة الثقافية والاجتماعية المحيطة بهم، وكلما كانت تلك البيئة أكثر ميلا إلى الفقر والتخلف والجهل وتغلغل الأفكار المتطرفة دينيا، كانت درجة الإيذاء أعلى. والمعنى أن القضية مرتبطة بالتوجهات الفكرية الكامنة فى المجتمع وليس بالقانون أو الدستور، ومرتبطة أيضاً بسلوك الأفراد والمجموعات نفسها. وعلينا أن نعترف ثالثا أن المجتمع بأسره من مؤسسات وجمعيات حقوقية ومفكرين ورجال دين مسلمين ومسيحيين ومسئولين وناشطين ورجال إعلام وصحافة وغيرهم، لم يقوموا بالدور المفترض القيام به لتغيير القناعات غير الحميدة التى تغلغلت بين نفوس قطاع كبير من المصريين والتى تدفع البعض منهم إلى اعتبار الأقباط مواطنين من الدرجة الثانية، وتدفع البعض الآخر إلى التعامل مع الأقباط تعاملا خشنا. ورغم أن ثورة 25 يناير خلقت تغييرا شاملا وكبيرا فى مدخلات العملية السياسية وفى الخريطة الفكرية والأيديولوجية لجموع المصريين، كما أن الديناميكية التى ميزت تحركات ومواقف جموع الأقباط وانغماسهم فى الشأن السياسى كما هو الحال بالنسبة للمسلمين، وتطلع الغالبية إلى تأصيل المواطنة فكريا وسلوكيا كسمة أساسية فى الحياة المصرية، فما زال الشق المتعلق بتعرض الأقباط للإيذاء المادى والمعنوى مستمرا، بل وزادت حدته فى بعض اللحظات بما يعكس تناقضا كبيرا بين ما تدعو إليه الثورة وبين واقع الحال الفعلى.
والسؤال هل الكوتة هى بالفعل الحل المناسب؟ الذين يؤيدون الكوتة سواء صراحة أو ضمنا ويصرون على وضعها فى الدستور يرونها حقا وتعويضا؛ حقا للحاضر والمستقبل، وتعويضا عن التهميش والإيذاء والإبعاد الذى تحملوه فى السنوات الستين الماضية، كما يرون أن اللحظة الراهنة وعملية كتابة الدستور التى تأثرت بضغوط قوى سياسية ودينية عديدة، ونتج عن هذه الضغوط تغييرات وحذف وإضافة، هى اللحظة المثالية التى تُقر فيها الكوتة القبطية عبر ضغوط محسوبة.
وفى يقينى أن هذه المبررات ستؤدى إلى عكس ما يُراد لها، فلا الكوتة ولا حتى التمييز الإيجابى هما الحل الأمثل مع الأخذ فى الاعتبار قدرة تيارات وقوى عديدة على ممارسة أنواع شتى من الابتزاز السياسى بل والدينى للمجتمع بأسره، ومن ثم صب المزيد من الزيت على نار هى موقدة بالفعل. وكما يقال لا يفل الحديد إلا حديد مثله، ولا يواجه الفكر إلا فكر مضاد، صحيح سوف يأخذ الأمر وقتا وجهدا، لكنه الأكثر صوابا والأكثر حكمة وحفاظا على الوطن ومكتسباته. وبداية لا بد من ملاحظة أن المناداة بالتمييز الإيجابى للمرأة والشباب تختلف تماما عن المناداة بالتمييز الإيجابى للأقباط، فكل من المرأة والشباب قطاعات منتشرة فى المجتمع ككل ويمكن وصفها بالضعيفة أو المهمشة دون أن يثير ذلك أى اعتراض من أى طرف كان، وبالتالى فإن إنصاف هاتين الفئتين هو فى صالح المجتمع ككل بكل تياراته وبكل تنوعه الدينى. أما التمييز الإيجابى للأقباط فقائم على تمييز لسبب دينى، ويوجه لطمة قوية لكل الجهود التى تبذل من أجل تثبيت المواطنة كعنصر أساسى فى البناء السياسى والقيمى المصرى. الأكثر من ذلك فإن هذا التمييز حتى لو اعترفنا وقبلنا نبل أهدافه ومراميه، فسيؤدى إلى تشويه وضع الأقباط، ويثبت معنى الأقلية التى هى نقيض فكرة أن الأقباط جزء عضوى من نسيج المجتمع المصرى لهم قناعات دينية مختلفة عن القناعات الدينية للجزء الآخر الأكثر عددا.
حتى لو تناسينا كل هذه الاعتبارات، فما هى التجربة الإيجابية سياسيا التى قامت على الحصص الطائفية والحصص الدينية ويمكن التعويل عليها للمناداة بحصة للأقباط كجزء من البناء السياسى المصرى الجديد. يكفى الإشارة إلى ثلاثة أمثلة حية كل منها يؤكد أن القبول بحصص طائفية يعنى تقسيم المجتمع وتشرذم النظام السياسى، وفتح الباب أمام موجات تلو موجات من التأثيرات الخارجية الضارة بل والمهلكة للبلد ككل. إن نظرة واحدة إلى حال لبنان بعد 70 عاما من استقلاله والقائم على ما يعرف بالطائفية السياسية وتوزيع المناصب البرلمانية والمناصب السياسية والتنفيذية وفقا للطائفة الدينية لا يمكن اعتباره بأى حال نموذجا مثاليا للتعايش بين أتباع الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، وإلا لما كنا شهدنا حربا أهلية استمرت 15 عاما لم تصمت إلا بعد تدخل عسكرى عربى وضغوط دولية، ولما كنا شهدنا طوائف تيسر لها دعم خارجى ماليا وعسكريا، ومن ثم أصبحت بمثابة دولة داخل الدولة. العراق بدوره يوفر لنا المثل الثانى، فالحصص الطائفية الظاهرة والباطنة هى السبب المباشر لحالة الانقسام الرأسى والأفقى الذى يعيشه العراقيون، الذين بدورهم يقتلون يوميا بالعشرات وأحيانا بالمئات لأسباب طائفية بحتة. وأخيراً لدينا سوريا ونظامها العلمانى نظريا الذى أطلق العنان للطائفية متصورا أنها حلقة النجاة له من ثورة الشعب، فإذا بها تحرق الأخضر واليابس. ويقينا لا أحد من المصريين، مسلم أو مسيحى يريد لبلده أن تكون نموذجا رابعا للفشل السياسى والانتحار الجمعى. فرجاء ابتعدوا عن التمييز وركزوا فى المواجهة الفكرية والانغماس فى كل ثنايا الحياة السياسية كمواطنين بدون أى شىء آخر.