انفض الجميع نحو البحث عن مكامن الأزمات التي تضرب أمة عريقة مثل مصر ومنطقة تاريخية ضاربة في القدم مثل المنطقة العربية، دون البحث عن الروابط الأربع، اللغة والعقدية والثقافة والانتماء، أو بمعنى أدق البحث فيها.
في التعريف البسيط للغة هي "ألفاظ يعبر بها القوم عن احتياجاتهم"، فكيف يمكن أن نتواصل جميعا ونتوصل لأمور وسط في احتياجاتنا اليومية أو المرحلية دون أن ننتبه إلى أن هناك أزمة في اللغة، واللغة هنا ليس مقصود بها القواعد من نحو وصرف بل مقصود بها البلاغة بمعناها البسيط، وهي "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، فكيف أتحدث حديثا موجزا معبرا بدقة عن احتياجي دون أن أتلاعب بالألفاظ أو يخونني اللفظ فأبتعد ويبتعد المخاطَب عن عن مرادي؟
إن أزمة اللغة بدأت متزامنة مع توافد الأمم غير العربية على المنطقة العربية، غزاة ومستوطنين، منهم من قهرتهم العربية بقوتها ومنهم من ترك فيها ضعفا من بلاغته أورثها وهنا على وهن جعل الشاعر حافظ إبراهيم يطلق قافيته للدفاع عنها، وكأن الكلام يحتاج مزيدا من الكلام لكي ينقذه، بربك يا حافظ فمن لم يفهم الأولى لن يفهم الثانية.
لكن الأزمة الحقيقية للغة حاليا بدأت مع الفارق العلمي بيننا وبين الغرب، والعلم هنا لا يقصد به الفيزياء والطب وعلوم الفضاء فقط، بل يقصد به كل ما تناوله البشر بقواعد محكمة مدروسة مبنية على التجريب والنتائج لا على الأهواء والميول والعواطف، أزمتنا الحقيقية بدأت حين جعلنا نفكك اللغة ونعيد تركيبها لتتماشى مع عصر الترجمات، أو تحديدا عصر الانبهار بالمترجمات، حتى أن أديبا كبيرا مثل يحيى حقي احتفى بترجمة الأديب الألماني جوته لقصيدة الشاعر الجاهلي تأبط شرا أكثر من احتفائه بالقصيدة نفسها، بل وترجم ترجمة جوتة للعربية في مبالغة من الاحتفاء أوقعته في شرك أطلق عليه الدكتور محمود شاكر "نمط مخيف" في كتابه الشهير "نمط صعب ونمط مخيف".
إن تفكيك اللغة وإعادة تركبيها مع إهمال البلاغة في صورتها الأولى وهي "مطابقة الكلام لمقضى الحال" فتح علينا بابا ممن يلعبون على مشاعر المتلقي بمعناه الواسع، أقصد الشعب كاملا، فنحن لسنا بحاجة لتطوير التعليم قبل تطوير أداة التعليم وهي اللغة، نحتاج أن يفهم التلميذ لغته أولا ويتواصل بشكل أسهل مع لغته تجعله سريع الاستيعاب والمطالعة، فاللغة السائدة في العالم حاليا سادت بسبب فقرها، فأصبحت متاحة للجميع يتعلمها في أسبوعين، ونحن ننفق سنوات لتعليم أبنائنا لغة لن يحصلوها ولو أنفقوا أعمارهم، لم كل هذا؟ دعك من تاريخ اللغة يا بني وادرس مهارات التواصل باللغة، ادرس ما تحتاجه منها حقا، ادرس كيف تفهم اللغة وتتعاطى معها أولى من أن تدرس كيف تشبك اللغة أصابعها في وجهك كأنها فوازير.
نحن لسنا بحاجة لتطوير الخطاب الديني قبل أن ندرك معنى كلمة خطاب أصلا، نحن نتحرج أن نقول إن ترديد الوعظ دون إسقاط لهو أسوأ ما يمكن أن يهدم ديانة جاءت عنوانا للدين والدنيا معا، إن تقديس الألفاظ اكتسب مع الوقت مناعة جعل أي شخص يقرأ كتابين يتصدى للخطابة، لم يكمل حفظ القرآن ويتصدى للدعوة، لم يدرس اللغة ويتصدى للتفسير، حسبه أن حفظ بعض الأحاديث ودرس "منار السبيل" حتى أصبح داعية، وبم يتواصل مع الناس، باللغة أم بالعواطف؟ بالعواطف طبعا، والشيطان يدخل من الطاعات، وكذلك يفعلون، بمجرد أن يملك الكاريزما فقد أصبح مستعدا ليؤسس جماعة دينية تأمر بمعروفه وتنهى عن منكره، مستغلا أن المتلقين جميعا لديهم مشكلة كبيرة مع اللغة.
لسنا بحاجة لتطوير الخطاب الوطني، فالوطنية محسوسة دون شك ولا تقاس بالكلمات، لكن كيف يستوعب المواطن دوره الوطني وهو لا يعلم الحقيقة من الشائعة، لا يعلم من يتحدث بصدق ممن يتاجر بالكلمات؟ لا يعلم أن من يملؤون الآذان بكلامهم المعسول عن حقوق الفقراء والعمال الكادحين يستقون مفرداتهم من كتب مر عليها أكثر من مائة عام، لا شيء سوى تفكيك الكلمات وإعادة تركيبها مع الإسقاط على الوضع الحالي، وبهذا يستوي لديه الداعية الجاهل مع المناضل بالمصادفة مع المعلم الصامت مع الكتاب غير المفهوم، فينتج عن ذلك كله خطاب كامل لا يصل ولن يصل، ينتج عن ذلك كله ملايين الكلمات وآلاف الصفحات ومئات الكتب تتخبط بينها وبين متلقي لا يتلقاها، فأين يسكن الوعي من كل هذا؟ وأين تكون التوعية على الأرض كما يتخيلها الجميع؟
لا بد من حل أزمة اللغة أولا، ثم تحل أزمة التواصل ثانيا، ثم نلتفت بعد ذلك لتصدير القيم للمجتمع وإعلائها فيتلقفها العامل والفلاح والمهندس والطبيب، ويسير على نهجها التلميذ والطالب والباحث، حل أزمة اللغة وتحويلها لقضية علمية مبنية على التجربة لا على العواطف هو مفتاح حل أزمات مجتمع يليق به النهوض والتطور، ولا يليق به الركود والتخبط.