قبل ما نتكلم عن " الترند" لازم نعرف حدوتة "الرأي العام"
في ما يعرف بعصر التنوير اللي بعد ثورة أمريكا و فرنسا و فترة الإصلاح السياسي في بريطانيا، الحقوق المدنية زادت و أصبح من حق الطبقات الاجتماعية المتوسطة والمنعدمة التصويت عشان يبقى فيه شرعية كنظام ديمقراطي، طلع جان جاك روسو وهو فيلسوف وقال يا جماعة الرأي العام ده لازم يبقى رأي الأغلبية وهي اللي من حقها تحدد مصيرها و مصالح الجماعة، بعدها بفترة وتحديدا في نهاية القرن التاسع عشر طلع مجموعة من المفكرين والفلاسفة زي فرديناند تونيز وخوسيه اورتيغا يا جاسيت، قالوا لأ جان جاك روسو واللي معاه غلطانين الرأي العام مينفعش يبقى رأي الأغلبية لأن الأغلبية غير مهيئة وأمية ومتقدرش تحدد إيه هي مصالحها ويمكن مجموعة صغيره تتلاعب بالأغلبية عشان مصالحها الخاصة، طبعا استمرت الخناقات ناس تقول الرأي العام هو رأي الأغلبية وناس تقول لأ الأغلبية مش مؤهلة لتكوين رأي عام.
لحد ما ظهرت وسائل الإعلام أو الصحافة، بدأ الباحثين يعملوا تجارب ويطلعوا بنظريات عاوزين يعرفوا دور الصحافة في تشكيل الرأي العام عند الجمهور، فمثلا طلع والتر ليبمان يقول من المستحيل إن الناس العادية تكون رأي عام وإن الصحافة ليها دور بس بسيط، رد عليه الفيلسوف جون ديوي وقاله المشكلة في الإعلام هو اللي فاشل في تكوين رأي عام عند الناس، المهم فضلت المشكلة قائمة يعملوا تجارب ويخرجوا بنظريات عاوزين يعرفوا إيه حكاية الرأي العام ده، وبيتكون إزاي ودور الإعلام فيه وزادت التجارب دي في وقت الأزمات اللي هي فترة الحرب العالمية التانية، وطلعوا بنتيجة مهمة جدا بتقول إن الجمهورعنيد وإن الناس اللي بتمر بتجربة مباشرة بحاجة معينة ومن خلالها بتكون رأي صعب جدا إنها تغير الرأي ده، وإنك لو عاوز تقنع بني آدم بحاجة لازم تكلمه فيها "فيس تو فيس"، وبرضه فضلوا يتخانقوا ويعملوا تجارب ويخرجوا بنظريات، لحد سنة 1962، نشر يورغن هابرماس كتاب بعنوان "التحول البنيوي في المجال العام" واللي أكد من خلاله إن كلام جان جاك روسو سليم، وإن الديمقراطية السياسية هتحصل لما يكون فيه فرصة متساوية أمام الجمهور للمشاركة في المجال العام، وإن لازم يتم إعادة هيكلة لوسائل الإعلام عشان تسمح للجمهور بالمشاركة.
طبعا الباحثين موقفوش بحث وتجارب ونظريات، ولسه مستمرين، بس أنا اللي يهمني في الموضوع ده الراجل ده، ليه؟ لأنه ببساطة مهد للترند.. طبعا ده مبالغة مني بس لو ركزنا شوية هنلاقيه مهد للترند فعلا لإنه مكنش يعرف إن نبوءته دي هتتحقق وهيبقى فيه حاجة اسمها السوشيال ميديا، وإن كل مواطن هيبقى عنده أكاونت على فيس بوك أو تويتر أو انستجرام أو يوتيوب.. وهيتعرض كل يوم لكم هايل من المعلومات وهيشارك برأيه فيها.
نقف هنا شوية، ونروح لمصر، في 2011 حصل أزمة كبيرة جدا في الإعلام ارتبطت بشكل كبير بكيفية معالجة حدث مهم جدا وهو ثورة يناير، الإعلام المصري نشر أخبار وتحليلات للحدث مش حقيقية قوي، في الوقت اللي كان فيه إعلام موازي بينشر أخبار حقيقية لكن مبالغ فيها، ده معناه إيه؟ إن الجمهور مر بتجربة مباشرة مع الإعلام زي ما الجمهور الأجنبي مر بتجربة مباشرة مع الحرب العالمية التانية كده، ولما عملوا دراسات على الجمهور الأجنبي وصلوا لإنه من الصعب جدا تغيير رأيه لو هو كونه من خلال تجربة مباشرة، ده اللي حصل للجمهور المصري مع إعلامه المصري، إن جزء كبير منه فقد الثقة في إعلامه، اللي ترتب على ده إنه بقى نشط جدا على السوشيال ميديا وأصبح بيشارك فعلا وأصبح فيه رأي عام اسمه "الترند"، لكن لا جان جاك روسو ولا يورغن هابرماس كانوا متوقعين إن الترند في صيف 2018 في مصر هيبقى: جواز معز مسعود من شيري عادل، خلع حلا شيحة الحجاب، البحث عن كتاب لون غلافه أصفر كان بيقرؤه محمد صلاح، أغنية "نمبر وان" و"الملك"، ومؤخرا "الديزل" لمحمد رمضان، وتعب إليسا، والناس اللي بوشين اللي وحشوه، ودعوة أحمد فهمي ومنة حسين فهمي لعمل كتاب إزاي تتعافى من الإكس في 5 دقايق، وامسك متحرش، وإنتي أي كلام ورد البنات عليها بإنت ولا حاجة.
المفكرين بتوع زمان برضه ماكنوش متوقعين إن السوشيال ميديا هتتحول إلى فوضى حقيقية، وإنه وعلى غرار قادة الرأي العام سيصبح هناك قادة الترند، "البلوجرز" اللي بيقدموا محتوى على السوشيال ميديا أو زي ما هم معتقدين، وفي الحقيقة بيقدموا صحافة صفراء من خلال إعادة إنتاج الترند وتحليله والتعليق عليه دون فلترته أخلاقيا وقيميا عشان يحصلوا على أكبر عدد من الفيوز والشير، وإن السوشيال ميديا ستصبح ساحة للنميمة اللي اتنقلت من أرصفة البيوت والمقاهي إلى فيس بوك ووصلت لحد التشكيك في معتقدات البعض وتكفيرهم أحيانا، وإن وسائل الإعلام عشان توصل لجمهور السوشيال ميديا من خلال صفحاتها ابتكرت أساليب جديدة، ففي الصحافة مثلا بينشروا أخبار مصورة عبارة عن صورة عليها عنوان يشد الانتباه عشان الجمهور يدخل يقرأ الخبر، بس اللي بيحصل إن جزء كبير من الجمهور مش بيدخل يقرأ الخبر وبياخد العنوان بس، زي اللي حصل في تصريح إحدى الوزيرات أن "إعلان الإفلاس أحد الحلول لمشكلات مصر الاستثمارية" في حين اللي جوه الخبر هو القانون المنظم لعمليات إعلان الإفلاس وليس إعلان إفلاس مصر، وتصريح آخر لاستبدال سارينة الإسعاف بتحيا مصر، وآخر لوضع مادة على الدقيق وغيره، كذلك القنوات أصبحت بتعتمد على ما يعرف بالكوميك من خلال اقتطاع بعض الفيديوهات من سياقها عشان يتماشى مع سمات المستخدمين الجدد وده سبب كبير في انتشار الشائعات والأخبار المغلوطة.
كل ده للأسف الشديد انتصار لمفكرين المدرسة المحافظة اللي رفضوا كلام جان جاك روسو وقالوا له الأغلبية اللي انت بتتكلم عنها غير مؤهلة لتكوين رأي عام! وده بطبيعة الحال يخلينا نستمر في البحث والخناق.