(المشهد الأول):
رئيس الجمهورية يستقل طائرته متجهاً إلى البحرين فى زيارة إقليمية بحسب جدول أعماله، وتصل الطائرة إلى المجال الجوى البحرينى، وتقترب من المطار فتبدأ عملية الهبوط، ويستعد الرئيس حتى تستقر الطائرة على أرض المطار، وتبدأ الإجراءات الأمنية لمغادرته لها فيبدأ هو فى التأهب للنزول من سلم الطائرة.
(المشهد الثانى):
يخرج الرئيس من الطائرة ليجد مراسم الاستقبال فى انتظاره فينزل إلى أرض المطار ويبدأ الترحاب، وتبدأ مراسم الاستقبال رسمياً بعزف السلام الوطنى الجمهورى المصرى كتقليد رسمى أساسى متعارف عليه فى استقبال رئيس الدولة المصرية.. ينتهى السلام الجمهورى وحتى هذه اللحظة تسير الأمور بطبيعتها وبمنطقية حتى تحدث المفاجأة الأولى من نوعها.
تنطلق موسيقى مسلسل "رأفت الهجان" أثناء تفقده لحرس الشرف فى سابقة لم تحدث من قبل وهى تحية خاصة وتقديرية بحرينية للرئيس المصرى لما يحمله من خلفية مخابراتية.
مشهدان ظاهرهما اهتم به "الكثرة المهتزة" التى استقبلته بالسخرية والسخافة والسماجة والسطحية المعتادة "بيعزفوله رأفت الهجان"، وما ترتب عليها من كم الاستظراف والغباء المناسب لعقلية أصحابه. أما "القِلة الواعية" فقد استقبلت الواقعة بتدبر وانتبهت لعمقها، فأن تُعزف فى استقبال رسمى لرئيس دولة كبرى موسيقى من مسلسل أياً كان توصيفه، فى النهاية هو عمل فنى تخطى إنتاجه ثلاثة عقود من الزمان فهو أمر يلزمه وقفة.. وقفة انتباه لأحد أهم الأسلحة التى نمتلكها ونتميز بها.. القوة الناعمة وعلى رأسها الفن!
عندما تملك سلاحاً مهماً، فيجب أن تحسن توظيفه فالفن هو أحد أهم الأسلحة المكونة للقوة الناعمة، وهى القوة التى تعبر بها وتصل إلى الجمهور وتحقق هدفك وغرضك من الرسالة التى تضعها بها، فترى أن مسلسلاً يروى أحد أهم العمليات من ملفات المخابرات المصرية يصبح أيقونة تاريخية ويروى إحدى البطولات المصرية الكبرى، والتى كانت سبباً رئيسياً ومباشراً فى عبور أكتوبر العظيم.. وهنا مربط الفرس.
النجاح الكبير لمسلسلى "رأفت الهجان" و"دموع فى عيون وقحة" وخلفهما عدد من الأعمال من نفس الفئة "الحفار – السقوط فى بئر سبع – الثعلب – وحلقت الطيور نحو الشرق"، وفى السينما "الصعود إلى الهاوية – الطريق إلى إيلات – إعدام ميت"، يحسب لمخرج هذه الملفات للنور واختيارها بعناية لتسطير وتخليد بطولات مصرية وأصحابها، وهو ما تم صياغته درامياً بمهارة واحترافية تحت إشراف الأجهزة المتخصصة، وسلط الضوء بتركيز على قوة ومهارة ودهاء المخابرات والعقلية المصرية التى هزمت أعتى عقليات الشر، وهو ما يلزم أن تتوارثه الأجيال المتعاقبة ويظل تحذيراً مبطناً دائماً لأهل الشر.
ما قُدم من أعمال الجاسوسية كان أشهر كتابه هو العبقرى الراحل "صالح مرسى"، فقد صنع تاريخاً حافلاً ومتوهجاً فى صياغة البطولات من ملفات المخابرات المصرية مستمراً حتى أبد الدهر، والذى منذ رحيله توقفت آلة الكتابة المحترفة للجاسوسية، فقد خسر الوسط الفنى والجمهور والأجهزة المعنية بطلاً من نوع خاص فى موقعه الذى ظل شاغراً حتى هذه اللحظة.
الغريب أن ملفات البطولات من المخابرات المصرية توقفت أيضاً عن الخروج للنور، فى الوقت الأشد احتياجاً إلى أعمال من هذه النوعية التى ترفع درجة حرارة الانتماء الوطنى، وتزيد من الارتباط بين المواطن ووطنه، خاصة فى عصر مشحون بالمؤامرات الفاجرة من الداخل قبل الخارج، فآخر عمل درامى مثلاً متكامل البناء إلى حد كبير كان "الصفعة" فى ،2012 الذى جسد بطولته "شريف منير"، والذى عاد فى 2017 ليتقاسم البطولة مع "كريم عبد العزيز" فى مسلسل بعنوان "الزيبق" فى جزئه الأول، ثم توقف ولم يخرج الثانى للنور بعد الدعايا الضخمة التى سبقته إعلامياً وإعلانياً، ليخرج علينا مجرد "مقلب"، وهنا يجب أن نلتفت أن عملاً من ملفات المخابرات المصرية لا يجب أن تكون صناعته بشكل تجارى كباقى الأعمال الفنية، ولكن عملاً من هذه النوعية يجب أن تكون له صناعة مختلفة بأدوات ومفردات مختلفة ومتميزة، مناسبة لأهميته وحساسيته، وهو ما يكشف لنا أننا نعانى من فقر حاد فى الصناعة نفسها وإدارتها وانعدام الوعى بالهدف المطلوب منها.
ولأن القدر يمنحنا علامات وإشارات فى أوقات معينة، فكان الفيلم الذى أنتجه العدو الصهيونى عن رجل الأعمال الراحل "أشرف مروان" مدعياً فيه أنه كان جاسوساً إسرائيلياً مزدوج يلعب لحساب إسرائيل فى غياب تام لأى رد مصرى إشارة مهمة، فالعدو استطاع توظيف سلاحه من القوة الناعمة وأنتج فيلماً يعبئ فيه إدعاءاته ويسجلها دون حساب أو مراجعة، فهى رؤيته بالرغم من نفى الرئيس الأسبق "مبارك" لهذه الرواية بصفته كان أحد رجال نصر أكتوبر، وأحد المقربين من الرئيس السادات بعد ذلك بحكم منصبه كنائب رئيس الجمهورية حينها، خاصة أن "أشرف مروان" والذى ما زال حادث سقوطه من شرفته فى بريطانيا والمطابق لحادث "السندريلا" غامضاً، كان صهراً لـ "عبدالناصر"، وبعدها وفى عصر "مبارك" كان الابن "جمال مروان" رجل أعمال يمتلك مجموعة قنوات غنائية وشركات إنتاج فنى سينمائية وغنائية، فهل يعقل أن تترك الدولة ابن الجاسوس العميل ضد الدولة يعمل بهذا الحجم دون أى رد فعل سواء، من الرئاسة أو جهاز المخابرات أو ما تطلق عليها "الدولة العميقة"؟!
مجموعة العوامل التى أصبحت تحيط بنا تدفعنا من منطلق وطنى أن ننفض الغبار عن ملفات البطولات المحبوسة فى الأدراج وانتقاء المسئولين عنها ما يصلح للخروج للنور بشكل مناسب لأهميتها بضمان تحقيقها للنجاح والاستمرار لعمر قادم فتقديمها بصناعة خاصة بها وانتقاء أدواتها من كتابة تضاهى العملاق "صالح مرسى" وإخراج وموسيقى وأبطال مقنعين بشخوصهم وأدائهم وأعمالهم مع باقى العناصر المكملة سيكون هو الضامن الوحيد لعودة الأعمال الجماهيرية من ملفات المخابرات المصرية خاصة أن الجمهور شغوف بهذه النوعية ويميل إلى الصقور وعملياتها ومن جانب آخر ستطرد هذه العملة الجيدة العملة الرديئة من السوق الدرامى وكذلك حال تقديمها سينمائياً لتزيح البطولات الحقيقية أعمال البلطجة والإجرام المفسدة للمجتمع والتى بدأ الجمهور بالفعل فى لفظها وأطاح بها لمراكز متأخرة فى المشاهدة والإيرادات ليصح الصحيح.
مؤكد أننا نملك من البطولات المخابراتية وقصص الجاسوسية من واقع ملفاتها الكثير والكثير والوقت مناسب تماماً لجرعة وطنية من هذه النوعية بعدما أثبت "رأفت الهجان" بعد 30 سنة باستقباله بموسيقاه للرئيس فى البحرين أهمية تجسيدها درامياً فبالرغم من رحيل البطل الحقيقى للقصة وبطل العمل إلا أن البطولة نفسها والعمل وإبداعه مازالوا وسيظلوا أحياء.
"محسن بيه" الذى قدمه ببراعة "يوسف شعبان" بالمسلسل كرجل المخابرات المسئول عن "رأفت الهجان" تحول من شدة نجاح العمل ونجاحه فى أداءه للدور على مدار العمر إلى "رمز" فأصبح الجمهور يبحث عن المسئول الكبير بـ "محسن بيه" ويناديه ويشكو إليه أو يطرح أمامه وجهة نظره خاصة فى هذه الدائرة وهو ما يؤكد بالدليل الدامغ على مدى أهمية القوة الناعمة وأهمية استغلالها كأحد أهم الأسلحة التى نمتلكها.
المخلصون والمحبون للوطن ومن يقدرون أهمية هذا الملف ومن يعى خطورته ومدى الاحتياج إليه فى هذه المرحلة كلهم اجتمعوا ليبحثوا عن أعمال جديدة فى الجاسوسية وهم على يقين أن سجل بطولات الصقور حافل وملئ بالكنوز التى تحتاج لإشارة من "محسن بيه" للكشف عنها وعن أبطالها.
كل هؤلاء أجمعوا على أهمية العودة لإظهار البطولات وتجسيدها درامياً لإعادة تغذية الحس الوطنى الذى يحتاجه "محسن بيه" للحفاظ على هذا الوطن.
كل هؤلاء الآن بصوت عالٍ وفى صوت واحد ينادون.. حائرون.. يتسائلون.. فى جنون
"فين جواسيسك يا......."