بالفيديووالصور| رحلة تهريب المواشى من ليبيا إلى مصر عبر حقول الألغـام
«الوطن» تكشف رحلة تهريب المواشى من ليبيا إلى مصر عبر حقول الألغـام
فى نهاية مايو من العام الحالى 2018، لاحظ سالم عبدالكريم، أحد أبناء قبيلة الموالك القاطنة فى وادى الرابية بأقصى حدود مصر الغربية الشمالية، والتى تعتمد على رعى وتربية الأغنام، حالات إعياء شديدة فى أغنامه، قرح كثيرة وكبيرة تنتشر على أجسادها لم تتوقف عن الانتشار رغم إعطائها التطعيمات والأدوية البيطرية، تسقط الرؤوس وتنفق واحدة تلو الأخرى. يختار الرجل، صاحب الـ45 عاماً، بئراً تقع على بعد 5 كيلومترات من منزله البسيط، لتكون مقبرة كبيرة لأغنامة التى صارت جيفها المتراكمة فوق بعضها مائدة للحيوانات البرية، الكلاب والذئاب والثعالب. ومنذ ذلك الحين تمر عليه الأسابيع والأشهر وتزداد حالات النفوق، لتصل إلى 40 رأساً تمثل تقريباً نصف ثروته التى ينفق منها على 9 من الأبناء وزوجتين له، لكنه فى حيرة من أمره، فقد عاش مع والده وجده وكل أبناء قبيلته ولم يزرهم مثل هذا المرض الغريب فى حدته، والذى لا يستجيب للأدوية، بينما يقترب منه شبح الإفلاس ويهدده وأسرته الكبيرة.
لكن فضل عبدالونيس، 39 عاماً، أحد جيرانه، ومن القبيلة نفسها، يشير بأصابع الاتهام إلى قطعان من المواشى والأغنام مقبلة من ليبيا إلى مناطقهم، وتنزل هذه القطعان عبر جبال السلوم الممتدة من هضبة السلوم وحتى وادى الرابية، وأن بعض الأمراض الغريبة تحققوا منها عبر أبناء أعمامهم فى الجانب الليبى، ووجدوا أنها موجودة هناك فقط، وكذلك ناصر عبدالله، الرجل الأربعينى، الذى يسكن فى منطقة رأس الضى، أسفل سيدى برانى بـ15 كيلومتراً، نفق لديه نحو 50 رأساً من الأغنام، تمثل 30% من ثروته خلال العام الماضى، يُحمِّل الحيوانات المقبلة من ليبيا، والتى كانت تمر أمام عينيه فى الصحراء، المسئولية عن مرض ونفوق أغنامه بحالات غريبة لم يسمع عنها هو ولا والده راعى الغنم العجوز.
«الوطن» تتنكر فى زى «تاجر» وتكشف فى تحقيق استقصائى عصابات تعمل على الحدود بين البلدين
«الوطن» توثق فى هذا التحقيق عمليات تهريب للمواشى والأغنام يقوم بها مهربون مصريون يقطنون المناطق الملاصقة للحدود الليبية بمحافظة مرسى مطروح، عبر مدقات حدودية تخترق الألغام المصرية والليبية لتدخل مصر بالمخالفة للقانون، واستغلال الصحارى الواسعة فى تمرير قطعان كبيرة بما تحمله من أمراض معدية تهدد الثروة الحيوانية فى مصر لدخولها من دون فحص بيطرى، ما يتسبب فى نفوق أغنام وحيوانات فى المناطق التى تمر عليها، لانتقال الأمراض المعدية من هذه الحيوانات التى تحمل سلالات جديدة للأمراض الحيوانية، وهو ما يُعد مخالفة للقانون المصرى الذى يمنع أساساً دخول الحيوانات الحية من أى دولة أفريقية.
على بعد 700 كيلومتر تقريباً من القاهرة، على أطراف مصر الشمالية الغربية، تقع مدينة السلوم.. مدينة استراتيجية يختبئ خلفها بنحو 15 كيلومتراً فما أكثر مهربون عدة لا يتوانون عن تهريب البشر والمحظورات، بل وأحياناً أنواع من السلع النظيفة، فهناك تبدأ الصحراء الواسعة، والمهربون يعرفونها جيداً بمدقاتها ووديانها ومخابئها. فى هذه المرة نكشف النقاب عن عملية تهريب سلع لا تحتاج إلى شاحنات وسيارات رباعية الدفع، إنها تحمل نفسها وتتوجه حيث يريد المهرِّب بإشارة من عصاه.
بوصولنا إلى منطقة السلوم وبقائنا فيها نحو يومين خاب أملنا فى رؤية أى «مواشى» أو أبقار غريبة الشكل أو سوق لتداول هذه المواشى المهربة، لم تكن هى الهدف المطلوب، فالمدينة الصغيرة بها وجود أمنى مكثف، وتُعتبر هى منفذ مصر الغربى إلى ليبيا، لذا كان الهدف على بعد نحو 85 كيلومتراً إلى الخلف داخل محافظة مطروح، حيث تجرى عمليات البيع والشراء والتخزين بين المهربين وتجار يأتون من محافظات مصر المختلفة لشرائها، وإنزالها إلى السلخانات ليجرى ذبحها، أو تربيتها داخل المزارع المصرية الأخرى فى الأرياف.
لم نتكلف من الوقت سوى أقل من ساعة حتى وصلنا إلى إحدى محطات البنزين لتزويد سيارتنا بالوقود. سألنا عامل المحطة عن تجار المواشى بحجة أننا نريد مواشى مستوردة. أخرج العامل هاتفه وأجرى مكالمة مع أحد التجار، ثم دلنا عليه. بالفعل التقينا «أبوموسى» التاجر، وحددنا له مرادنا بوضوح وصراحة: «نريد مواشى رخيصة مهربة من ليبيا عبر الحدود»، بلهجة من اعتاد مثل تلك الطلبات دخل معنا أبوموسى بسرعة فى تفاصيل أكثر إنجازاً ليحدد الكمية التى نريدها والأنواع أيضاً.. سألنا: «ماعز ولا مواشى؟.. حددوا اللى عايزينه علشان نروح نشوفها»، أجبناه بأننا نريد كل الأنواع وسنأخذ منها. يركب معنا سيارتنا ونتوجه نحو إحدى المناطق التى تقع بين سيدى برانى ومدينة السلوم.
لم نقطع سوى بضعة كيلومترات باتجاه الغرب نحو مدينة السلوم والحدود الليبية، ثم اتجهنا جنوباً إلى إحدى التبات قليلة الارتفاع تحوى غرفاً واسعة. باقترابنا نشاهد قطيعاً من الماعز، وإلى جواره طفل لم يتعدَّ الثانية عشرة من عمره، لننزل من سيارتنا ونقترب من الماعز لنفحصها، تهرول أمامنا، ما دفع الطفل إلى إدخالها «الحظيرة» لنفحصها، كانت المرة الأولى التى نرى فيها مثل هذه الماعز، ذات «قرون» عريضة يصل عرض جناحيها نحو نصف متر، وأذن كبيرة جداً تتدلى إلى الأسفل. أمسك أبوموسى بعض الماعز وفتح الفم عارضاً الأسنان التى تُظهر عمر الحيوان وقوته وصفاته، ثم مد يده إلى الأذن الكبيرة ليمسكها قبل أن يقول: «كل ده خارجى بييجى من بره مصر، فيه بييجى من مالطة ومن ليبيا، دى مش بتتباع أوزان، الحاجة دى بتتباع بالراس، يعنى تاخدهم كلهم شروة، اللى قرنه كبير ده تيس.. بياخدوه الفلاحين عندكم تحت وفى البحيرة، وكله جاى من ليبيا، قطعت المسافة عادى ولا بيجرى لهم حاجة».
ويتابع: «دول عددهم 50 وعليهم تقريباً 15 أو 17 جدى، هتاخدوهم فوق البيعة، الرأس مفصولة على 2.5 ألف جنيه، خلى بالك دى حاجة كويسة، ركز على ودن المعيز علشان تعرف إنها من بره، جاية من ليبيا، مفيش الودن دى فى مصر، ولو عندك مزرعة.. الجديان دى فيها مكسب حلو لأن الجديان بتشيل وساعات بيوصل وزنه لـ80 و100 كيلو»، مشيراً إلى أن عملية بيع الماعز هذه يجب أن تتم مرة واحدة، وبالتالى سعر هذا القطيع 125 ألف جنيه، أبلغناه أننا سنناقش الأمر مع التاجر الكبير فى مصر، ونصور هذا القطيع من خلال الهاتف ليتأكد أن الماعز مستورد ليقرر هو الموافقة على النوع والسعر، وإذا ما كان لديه أى ملاحظات أو تعليقات. يتفهم «أبوموسى» الأمر، ويرحب بنا فى أى وقت حال قرارنا الشراء، ونطلب منه أن نكسب وقتاً ويرينا أى بضاعة أخرى، خاصة «الجمال»، ليصطحبنا إلى مزرعة لأحد أصدقائه الموجودين على أطراف سيدى برانى.
الحيوانات تخرج من فتحة مدق التهريب فتنفجر فيها الألغام وتسبب الذعر لبقية القطيع وبعضها يموت من حرارة الشمس وطول المسافة.. ومصر تحظر استيراد أو شراء الأغنام والمواشى من ليبيا ودول أفريقية لوجود أمراض معدية غير مسجلة.. ومخاطر عبور الحدود بعيداً عن المدقات عالية جداً.. واحتمالية انفجار اللغم تصل إلى90٪.. و10٪ نسبة نفوق الماشية المهربة
كانت المسافة بعيدة إلى «الحظيرة» التى يستقر فيها الماعز، حيث اتجه نحو شمال شرق المدينة باتجاه الصحراء الواسعة التى تفصل بينها وبين البحر المتوسط. خلال هذه المسافة طرحنا عليه الأسئلة التى كنا نريد أن نعرف إجابتها عن عملية التهريب، لذا لم يكن أمامنا مجال للنقاش بطريقة لا تثير شكوكه سوى أن نتحدث عن الماعز التى من المحتمل أن نحملها معنا إلى القاهرة، ليقول: «ما تقلقوش من المعيز دى، ولا هى علشان متهربة تكون تعبانة ولا حصل لها حاجة؟ ما انت شفتها قدامك أهيه، دى لو تعبانة مش هتبقى واقفة كده. وبعدين المعيز فى التهريب بتبقى أمان لأنها سريعة، تمشى مسافات طويلة ولا تفرق معاها، وكمان خفيفة على اللغم». نصل إلى موقع محطتنا الثانية، حيث تجتمع نحو مائتا رأس من الإبل داخل حظيرة محاطة بسلك شائك، لننزل من سيارتنا التى عانت كثيراً لتقطع مسافة فى منطقة مليئة بالحصى الغليظ والحجارة الكبيرة، حتى إننا كنا نسير على سرعة لم تتجاوز العشرة كيلومترات فى الساعة.
يشير «أبوموسى» بيده إلى الحظيرة المحاطة بأسلاك شائكة، ويقول: «الجمال دى مغربى، جاية من السودان، واتربت فى ليبيا، إنما السودانى تلاقيها بيضة وطويلة، هى الجمال دى نوعها مغربى اتولد فى السودان، جت من السودان وقعدت فى ليبيا فترة طويلة، وبعد كدة عدت جت مصر، وصلوا بالسلامة بقالهم أكثر من 20 يوم»، مؤكداً أن مناعتها قوية وتتحمل المشقة والأمراض، وأن مرور الجمال عبر الدول يُعد أمراً سهلاً، والأسلاك الشائكة على الحدود يتم قطعها، بل تتم سرقتها، ويستخدمونها فى أغراض أخرى، معلقاً: «الأسلاك الشائكة دى جاية من الحدود، بتتقطع ويعدوا عادى وبياخدوها زى ما انت شايف»، موضحاً أن صاحب هذه الإبل سيتساهل فى سعرها إذا كانت هناك جدية فى العملية، حيث إنها وصلت منذ ثلاثة أسابيع ويتحمل تكاليف أعلافها التى تكلفه الكثير.
نسأله عن أسباب تقديم العلف للإبل ومحاصرتها بالأسلاك الشائكة بدلاً من تركها مثل بقية الإبل تتجول فى المنطقة المجاورة وترعى فيها، ليجيب بأن هذه الجمال مقبلة تهريباً من الحدود وليست جمال مواطنة تم تربيتها فى هذا المكان وتتجول فى المنطقة وتعود إليه، لذا يخشى من أن يتم فك أسرها فتعود إلى ليبيا ثم إلى السودان لأنها تحفظ الأماكن البعيدة، قائلاً: «دى ممكن تروح ليبيا وبعدها تروح السودان مكان ما جت، الجمال عندها ذاكرة قوية، وممكن يرجعوا ويهربوا ويعدوا الحدود تانى، فبنضطر نجيب لهم علف».
طالبناه بأن يترك لنا الوقت للرد عليه فى موضوع قطيع الماعز والجمال بعد أن حصلنا على صور لهم لإرسالها إلى شركائنا فى القاهرة لنحدد وبعدها نخبره، وذهبنا فى رحلة البحث عن المواشى المهرَّبة، التى قررنا أننا سنجدها فى المكان الذى يجتمع فيه التجار ليباشروا تجارة المواشى داخل سوق فى قلب مدينة سيدى برانى يُعقد فى الساعات الأولى من صباح كل يوم.
«أبوموسى» يعرض أغنامه: «الماعز خفيفة على اللغم بتيجى من مالطة على ليبيا وتتباع شروة» و«مهرب»: «مابنعملش حاجة غلط.. دى حيوانات مش سلاح ولا مخدرات».. و«سالم» تنفَق منه 40 رأساً من الأغنام بسبب مرض لم يستجب للأدوية والتطعيمات ويلقيها فى بئر مهجورة لتتغذى عليها الكلاب والذئاب.. و«ناصر» يفقد 50 «غنمة» تُمثل ثلث ثروته: «كله بسبب السعى اللى ينزل من ليبيا»
التجارة فى هذه السوق كبيرة ومتعددة، لكن تختفى رؤوس المواشى من هذا السوق وكذلك الإبل. بدا علينا أننا غرباء عن هذا المكان، وكنا زبائن ذوى قيمة نخطف الأنظار، فالرداء المتمدن دلَّ على أننا أتينا من مدينة بعيدة عن هذه السوق بمئات الكيلومترات، والذى يقطع مسافات طويلة إلى هذه السوق لم يأتِ ليشترى «عنزة» صغيرة.
لم نفهم الكلمات الكثيرة التى تفوَّهوا بها.. مصطلحات لم نعرفها مع «لكنة» يصعب علينا فهمها، لكن تمكنَّا من جذب انتباههم بسؤالنا عن تجارة ثمينة، إنها «المواشى». انتبه إلينا نحو 3 من التجار الصغار أو الوسطاء، الذين أكدوا لنا عدم توافرها بالسوق لأنها مهرَّبة من الخارج، ويتم تخزينها فى أماكن بعينها لدى تجار يقيمون لها حظائر خاصة فى الغالب تكون بجوار منازل هؤلاء التجار. أول من «اصطادنا» كان «أبوخالد»، حاول معرفة المكان الذى أتينا منه، لنخبره الحقيقة: «إحنا من الجيزة يا عمدة، من الآخر أنا لا تاجر ولا بفهم فى المواشى، بس أنا كنت بقضى مصلحة هنا جنبكم فى مطروح، وعمى جزار ليه كذا مكان فى الجيزة، إمبابة والوراق والمهندسين، وقال لى روح واعرف لى أسعار المواشى اللى جاية متهرَّبة من ليبيا عايز أعرف سكتها إيه»، ليرد أحد الحاضرين، يُدعى «معصوم»، ويقول: «هات رقمك علشان لو لقيت لك أتصل بيك».
بدونا أمام «السماسرة» أو التجار صريحين جداً، بعد أن أخبرناهم أننا لسنا تجاراً لكنَّا مكلفون بمهمة ونطلب منهم المساعدة وألا يخدعونا، لأن هناك من سيأتى ويمتلك الخبرة اللازمة لكشف مدى جودة معاملاتهم. أجرى «أبوخالد» اتصالات بعدد من التجار أصدقائه، ليؤكد له أحد أصدقائه أنه صديق مشترك لهم يمتلك فى حظيرة بجوار منزله نحو 80 رأساً من الماشية المهرَّبة من ليبيا. طلب منا الذهاب، واستقل معنا سيارتنا التى تحمل ماركة «kia»، وهى التى تجذب الانتباه فى كل منطقة سيدى برانى، فكل سياراتهم تقريباً هى سيارات نصف نقل من ماركتَى «nissan» و«toyota». ركب معنا لننطلق إلى أحد المنازل أعلى تبة فى جنوب منطقة سيدى برانى، المنزل متسع، ذو طابق واحد، يبعد عنه بنحو أقل من 30 متراً سور أسمنتى قصير نحو 170 سنتيمتر تقريباً، مغلق بباب حديدى غير قوى. ينزل «أبوخالد» من سيارتنا ليقترب من المنزل وينادى صاحبه، فيما يتوجه هو بنفسه ليقوم بفتح باب الحظيرة المتسعة لأكثر من 100 متر، لا يحتاج إلى مفاتيح، فقد كان الباب مغلقاً بشريط رفيع من المعدن الذى يلتوى ويلتف حول فتحتَى الباب ليحكم إغلاقه، فيما بدا أن الوضع فى هذا المكان آمن، فلا أقفال حديدية، ولا أى احتياطات أمنية، الجميع يعرفون بعضهم، ولا أحد غريباً يمكنه التوغل فى هذا المكان. يبدأ «أبوخالد» بنفسه الحديث ليقول: «بص يا باشا، ده كله شغل خارجى، يعنى جاى تهريب من ليبيا، نقى وشوف اللى انت عايزه، فيه حاجات 600 كيلو، و800 كيلو، بنقول عليها خارجى، إحنا مانعرفش نوعه إيه، وتقريباً هو إما إسبانى أو هولندى»، مشيراً إلى أن هذه المواشى يتم بيعها بالرأس وليس بالوزن، وأن الرأس الواحدة ثمنها 25.7 ألف جنيه، وأن الموجود حالياً 82 رأس ماشية، ويطالبنا بالدخول وسط المواشى لفحصها، ويدور الحوار كالتالى:
المحرر: مفيش حاجة تعبانة ولا متعورة من السلك ولا فيها حاجة؟
السمسار: لا، فتش براحتك، لو فيه حاجة عيانة طلَّعها، هو ما كانش فيه غير بهيمة واحدة اللى اتعورت من السلك.
التجار يتربحون من عمليات التهريب لانخفاض أسعار الحيوانات فى ليبيا.. والعملية تتسبب فى نقص المعروض وارتفاع سعر اللحوم فى الأسواق هناك.. و«سيدى برانى» نقطة تخزين المواشى والأغنام المهرَّبة قبل بيعها لجزارين من بقية المحافظات.. وتُحمل بالسيارات من ليبيا لتسليمها.. والسماسرة يضعونها فى حظائر بجوار منازلهم.. و«بلل»: التجار لهم اليد الطولى للفوضى الأمنية فى ليبيا.. و«ثروت»: التهريب جلب أنواعاً جديدة من الحمى القلاعية التى تسببت فى نفوق عدد كبير من المواشى فى الدلتا و«عبدالكريم»: 80٪ من أمراض الإنسان سببها تناول م
المحرر: هى جاية من فين، ليبيا؟
السمسار: هى جاية من بره، وبيجيبوها ليبيا، وبتنزل من ليبيا على مصر.
المحرر: لو احنا احتجنا نجيب حاجة من جوه ليبيا؟
السمسار: لازم تقعد وتتفق مع الناس.
لنخرج خارج الحديث ثم نعود ونستكمل:
المحرر: خدت قد إيه لحد ما وصلت من ليبيا؟ وهل فيه حاجة ماتت فى الطريق؟
السمسار: لو فيه رياح بتيجى متأخر وبتأثر على العجول وبتموت، ساعات خسرنا والله 25 عجل بالرياح، والناس اللى تسلمتها أى حاجة تتعثر فى المشى يسيبوها غصب عنهم لأنه عايز يطلع ويكمل بالباقى، ممكن ناس يرجعولها بعد كده وممكن تضيع، وكمان فيه بقر بيغلب فى المشى وساعات بيطلع بره من الفتحة اللى نازل منها يروح واكله اللغم على طول، اللى تطلع بره دى خلاص ما عادش فيها.
المحرر: طيب وهى طالعة مثلاً مش صاحبها ياخدها، ولا هى بتخرج بره فى منطقة اللغم يعنى؟
السمسار: اللغم ده معمول له فتحة كده 15 متر، لو طلع عجل بره من الفتحة هيروح على طول.
المحرر: طيب هى مشيت مسافة كبيرة ما ممكن تكون جالها عدوى من أى حاجة اختلطت بيها.
السمسار: الناس اللى بتاخد مننا بتروح على مجازر على طول، والمسافة اللى مشيتها من ليبيا مش كبيرة أوى، بيحمّلوها بالعربيات من ليبيا لحد آخر نقطة على الحدود وبعدين يسيبوها تمشى حوالى 20 كيلو أو 25 كيلو، وبعد كده يوصلوا مصر ونستلمهم هنا.
ينتهى النقاش بيننا بأننا سنحصل على رأى شركائنا فى القاهرة والجيزة للاتفاق على القرار النهائى بعدما علمنا بالسعر الذى حددوه. وطلبنا الرحيل للتشاور واتخاذ القرار، لنغادر فى هدوء من دون أى قلق.
عدنا إلى السلوم بعد أن حصلنا على المعلومات الكافية عن المواشى المهرَّبة وأسعارها، لكن الطريقة التى يتم بها تهريب المواشى لم تكن واضحة لنا بشكل تام، وكذلك المواعيد والنقاط التى ينطلقون منها ومخاطرها، ولم يقدم أشخاص على عبور الحدود ليضعوا أنفسهم أمام فوهات بنادق حرس حدود الدولتين المصرية والليبية!
مرت مرحلة انتظار طويلة داخل السلوم بحثاً عن طريقة نكشف بها كواليس ما يجرى عند مرحلة الخطر بين الدولتين، حيث الحدود والألغام. نرى من شرفات «الفندق» ثلاث بقرات اعتادت التجول فى الشارع بحرية، ونتساءل: هل تلك البقرات عبرت الحدود من الخلف أم «مواطنات»؟ لكن تمكنّا من الوصول إلى مهرِّب فى أحد الوديان الواقعة بين السلوم وسيدى برانى، كنا نعرفه ويعرفنا، وسبق أن تعاون معنا فى مغامرات سابقة، تحدثنا معه عن عمليات التهريب ليدافع عن المهربين الذين يقودون المواشى، قائلاً: «إوعى تكون شايف إن المهربين اللى بياخدوا المواشى دول ناس وحشة، لا، دول ما لقوش حاجة يعملوها وكان فى إيديهم يهربوا مخدرات وسلاح، بس هما مش راضيين يعملوا حاجة غلط، وبعدين ما الحكومة هى اللى مانعة دخول المواشى».
لم يكن جدالاً أكثر من أنه محاولة لمعرفة كواليس عمليات التهريب تلك. انتهى الأمر بالاتفاق على محاورة أحد الشباب الذين يمارسون عملية التهريب دون الكشف عن هويته أو صورته، فيما تمكنّا من التصوير معه صوتاً وصورة مع إخفاء وجهه بعمامته (ملثم)، بعد أن أخذنا إلى أحد الدروب التى تُستخدم فى عملية تهريب المواشى على الشريط الحدودى. تعمقنا باتجاه ليبيا إلى أقصى درجة مسموح الوجود فيها قانوناً، ورفضنا مواصلة التوغل فى مدقات التهريب لعدم مخالفة القانون بالوجود فى أماكن محظورة. واكتفينا برؤية المسار فقط ورؤية آثار أقدام القطعان التى بدا أنها مرت من هنا قبل ساعات. جلسنا فى هذا المكان الحدودى، وجرى الحديث، حيث عرّف الرجل نفسه أنه من إحدى القبائل الحدودية الغربية بين مصر وليبيا.
الجمال تحاط بأسلاك شائكة ويقدم لها العلف بعد دخولها الأراضى المصرية.. وسمسار: «دى مرت على السودان ثم ليبيا حتى وصلتنا وبنخاف نسيبها ترعى فى الحشيش لحسن ترجع بلدها لأن ذاكرتها قوية والأسلاك على الحدود بنقطعها وناخدها».. و«مهرب»: «نستغرق نصف يوم لعبور الحدود بـ30 كيلو متر ومواشى خرجت من المدق وانفجرت فيها الألغام أمامنا.. وسُمك منطقة الألغام الليبية 1٫5 كيلو متر»
يبدأ المهرِّب حديثه، ليقول: «ما بنعملش حاجة غلط، دى حيوانات لا سلاح ولا مخدرات، دى عجول وبقر وجمال وأغنام، كله بييجى من أفريقيا تحت، ومن تونس والمغرب ومزارع فى ليبيا، وفيه بييجى من بلغاريا وأوروبا عن طريق موانئ طبرق وبنغازى، واحنا بناخدها من مساعد فى ليبيا نهربها لحد ما تدخل مصر ونسلمها للتاجر»، مشيراً إلى أن المشكلة الكبيرة التى تواجههم هى حرس الحدود المصرى، لأنه يشدد الحدود ويقبض على الكثير بدورياته، وأن الجيش المصرى تعامله سريع وفورى، حيث يتم إحالة المقبوض عليه للنيابة العسكرية لتتخذ الإجراءات القانونية معه.
ويضيف «المهرِّب» أن عملية التهريب تتم بعد تنسيق بين تاجر فى مصر وآخر فى ليبيا، ويحتاجون إلى نقل المواشى، فيحتاجون إلى مهرِّب ومعه عدد من مساعديه لسحب القطيع، وأن أول مرحلة تكون هى الدخول من المدقات بين الألغام، ويكون حقل الألغام الليبى 1.5 كيلومتر، ثم بعدها مرحلة الألغام المصرية، ثم تبدأ مرحلة الخطر وهى حرس الحدود المصرى، وتكون مسافة السير فيها من 3 إلى 4 كيلومترات، ثم بعدها يكون العبور من منطقة أسفل السلوم، وبذلك تكون المخاطر قلَّت أو انتهت، ليتم تسليم القطعان للتاجر داخل الأراضى المصرية، معلقاً: «العملية دى بتستغرق حوالى نص يوم، تطلع من ليبيا المغرب، وتوصل الأراضى المصرية تانى يوم الصبح، والمسافة حوالى 30 كيلو تقريباً، بنسوق الغنم ده فى المرة الواحدة ساعات بتوصل لـ4 أو 5 آلاف رأس خروف، والبقر ساعات بتوصل لـ600 أو 700 رأس، وساعات عيال هما اللى يسوقوا يكون عددهم 15 وياخد كل واحد فيهم 2000 جنيه، حسب يعنى».
ويشرح «المهرِّب» المزيد من التفاصيل عن حقول الألغام والمدقات التى تم تجهيزها قائلاً: «نعرف حوالى 10 مدقات موجودين على الحدود، فيه منها اللى عمله الجيش الليبى، حوالى 2 أو 3، والباقى عملوه مهربين علشان يفوتوا منها»، وأن الأسلاك الشائكة ليست موجودة على طول الحدود، حيث توجد أماكن تخلو من الأسلاك الشائكة، متابعاً: «كان فيه واحد صاحبى شارى 30 عجل وما دخلش فى فتحة المدق ودخل بالبركة فى مكان مش نضيف، كتير من مواشيه ماتوا، اللى انفجر فيه لغم وانقطعت رجليه وكان يوم صعب، وكان فيه عجول حية بس مصابة اتسابت والله تتصفى لحد ما ماتت، هنعمل إيه؟ ساعات بنبقى شايفين الحيوان يخرج من المدق ويروح للغم ونشوفه ينفجر، بس هانعمل إيه؟ حياتنا غالية».
ويضيف «المهرِّب» أن نسبة المخاطر من عبور الحدود من دون استخدام المدقات عالية، واحتمالية انفجار الألغام تصل إلى 90%، موضحاً أنه حتى بعد استخدام مدق التهريب بعض المواشى لا يقدر على استكمال الطريق، فيتركه المهرِّب ليتابع الطريق والنجاة ببقية القطيع، وأن نسبة نفوق المواشى خلال العبور تكون 10% من إجمالى ما يتم تهريبه، معلقاً: «أحياناً حوادث تحصل ما تتوقعها، مثلاً بقرة تخرج من القطيع وتجرى بره المدق فينفجر فيها لغم، فالقطيع يبقى مذعور ويخرج ناحية الألغام وتنفجر فيهم وبتبقى فوضى، وأعرف واحد كان جايب 100، مات منه 70 لقاهم نايمين من الحر، بس ده كان ماشى مسافة بعيدة ممكن يدخل على 100 كيلو».
ويبرر «المهرِّب» استمرار عمليات التهريب رغم المخاطرة التى تحيط بها، من خسارة الرؤوس ونفوقها خلال تهريبها، بأن المكاسب الكبيرة تعوِّض الخسائر، شارحاً الربح من خلال سعر رأس الغنم فى ليبيا بأنه 500 دينار ليبى، بما يعادل ألف جنيه مصرى أو أقل، قائلاً: «هتصرف عليه حوالى 300 جنيه مصرى سكة، فيوصل بنحو 1100 أو 1200 جنيه مصرى، ويتباع هنا بأكتر من 2000 جنيه»، موضحاً أن التهريب مرتبط بالعملة الليبية، إذا ارتفعت قيمتها تقل حركة التهريب والعكس صحيح، وأن التهريب يستمر بسبب اضطرار أبناء القبائل إليه لبطالتهم، كما أن البضاعة ليست ممنوعات، وأن التهمة إذا أُلقى القبض على مهرِّب هى «الوجود فى منطقة ممنوعة» من دون أن يحمل سلاحاً أو مخدرات، وتكون العقوبة هى السجن عاماً واحداً، خاتماً حديثه بقوله: «واللى يقول لك عيانة أقول اللى عيانة بتتعب فى الطريق ونسيبها والسليمة بتقدر تمشى فى الصحرا ونجيبها»، لينتهى حديثنا معه، ونغادر المكان عائدين إلى السلوم.
لكن عمليات التهريب هذه تسبب مخاطر كبيرة للثروة الحيوانية المصرية، حيث تنتقل المواشى الحاملة للأمراض المعدية إلى داخل الحدود المصرية من دون فحص بيطرى، سلالات وأمراض جديدة ليست مسجلة فى مصر، لا يوجد لدى حيواناتنا أجسام مضادة لها، ولا لدى أطبائنا ومراكزنا البيطرية أمصال تقضى عليها. أكد لنا ذلك الدكتور ثروت عبدالعزيز، مدير إدارة سيدى برانى البيطرية، والمسئول عن حالة الأغنام الصحية فى هذه المنطقة، التقينا به فى أعماق الصحراء بالقرب من الحدود الليبية عند منطقة «أوجرين» التى تبعد عن مدينة السلوم بنحو 60 كيلومتراً إلى جنوب الصحراء، وعلى بعد 25 كيلومتراً فقط من ليبيا، كان يقوم بجولة فى فحص الأغنام ومنحها التطعيمات. هذه المنطقة يقول أهلها من قبيلة الموالك إنها شهدت معركة حربية عنيفة بين قوات القائد النازى إرفين روميل وقوات القائد الإنجليزى برنارد مونتجمرى خلال الحرب العالمية الثانية.
يقول «ثروت» إن هذه المناطق الواقعة على خط الحدود تعانى من أمراض عدة، أشهرها الحمى القلاعية وطاعون المجترات الصغيرة، ومرض «المايكوبلازما» فى الماعز، مرجعاً السبب فى هذه الإصابات إلى اختلاط المواشى المهرَّبة من ليبيا بالمواشى المواطنة فى الوديان الموجودة فى مرسى مطروح، وتسبب نقل هذه الحيوانات إلى بقية المحافظات فى انتشار العدوى ونفوق كبير للمواشى فى محافظات الدلتا خلال الفترات الماضية، موضحاً أن الحيوانات المهربة دخلت مصر ومعها سلالات جديدة، حيث ظهر ما يسمى بـ(عترات الـsat الـ«A» والـ«o») وهى أنواع من مرض الحمى القلاعية، ما دفع الهيئة العامة للخدمات البيطرية إلى تصنيع اللقاح الخاص بهذه الأنواع الجديدة غير الموجودة فى مصر لمواجهتها، معلقاً: «وعمليات التهريب مش بس تسببت فى إدخال أمراض جديدة، بل زادت من حدة الأمراض الموجودة فى مصر لأن العدوى كانت تصيب مناعة الحيوانات فتضعفها وتجعل فرصة إصابتها بأى مرض كبيرة جداً، والسبب طبعاً أن ليبيا تستورد من الخارج سلالات مختلفة، وعند الدول دى أمراض مش موجودة عندنا، فلما بتعدى على مصر بتحصل عدوى ونفوق للحيوانات».
كنا بحاجة إلى التأكد من حمل الحيوانات المهربة من ليبيا للأمراض المعدية وأنها المسبب الفعلى لحالات النفوق للأغنام والماعز فى هذه المناطق، ما يُعد تهديداً كبيراً لكل الثروة الحيوانية فى مصر، بالبحث توصلنا إلى مذكرة بتاريخ 25 مايو 2017 صادرة من مديرية الطب البيطرى بمطروح ومذيلة بتوقيع مديرها، موجهة إلى رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للخدمات البيطرية، يخبره فيها بوجود حالات نفوق للمواشى المتحفظ عليها فى أحد المحاجر بمدينة سيدى برانى، مع استمرار دخول «مواشى» جديدة يتم ضبطها أثناء تهريبها من الجانب الليبى، وأنه تم سحب عينات دم من بعض الحيوانات بتاريخ 21 من الشهر نفسه لتحليلها بمعامل معهد بحوث صحة الحيوان التابع لوزارة الزراعة المصرية.
وجاءت فى المذكرة الرسمية نتيجة تحليل العينات التى أظهرت إيجابيتها لوجود فيروس طاعون المجترات الصغيرة، وفيروس الحمى القلاعية، وفيروس اللسان الأزرق -مرض غير موجود بمصر، ويطلب فيها من رئيس الهيئة العامة للخدمات البيطرية قراراً بهذا الشأن، ويحثه على سرعة الرد، وينبهه إلى أن النيابة العسكرية ألزمته بالرد فى موعد غايته يوم 28 مايو 2017، حيث إن هذه الحيوانات ألقت القوات المسلحة القبض عليها واحتجزتها فى هذه المحاجر، كما تمكنّا من الحصول على نتيجة التحاليل الأصلية الصادرة من مركز بحوث صحة الحيوان التى تكشف عن وجود فيروس حمى الوادى المتصدع والإسهال الفيروسى البقرى، كما حصلنا على مذكرة رسمية أخرى تكشف عن العدد الكبير الذى يتم ضبطه وحجزه فى المحاجر البيطرية بسيدى برانى والسلوم، حيث تم ضبط 4945 رأساً من الماشية والأغنام خلال الفترة ما بين الأول من فبراير حتى منتصف مارس عام 2017 أى خلال شهر ونصف الشهر فقط، وأن 345 من العينات التى سُحبت عشوائياً أثبتت إيجابيتها للأجسام المناعية المضادة لفيروس اللسان الأزرق والحمى القلاعية.
وتصف الدكتورة عزة سعيد جودة، أستاذ الميكروبيولوجى قسم صحة الحيوان فى مركز بحوث الصحراء من مكتبها فى القاهرة، الحيوانات المهربة التى تأتى من ليبيا بأنها «قنبلة موقوتة» لأنها تتسبب فى إدخال مسببات أمراض جديدة تدخل مصر لأول مرة ولا يتم علاجها بسهولة كتلك الأمراض الموجودة فى مصر، والتى لها أمصال، قائلة: «ممكن سلالة المرض اللى داخلة دى تكون مطورة نفسها، وطبعاً الحيوان الأجنبى بيدخل وعنده المناعة بتاعته وبتكون عالية، فبيحمل للميكروب المسبب للمرض دون أن يظهر عليه الإعياء الشديد، وينزل الميكروب عن طريق الإفرازات الطبيعية بتاعته وبيعدى على الأماكن اللى فيها البدو وبينزل إفرازاته فى المكان، وينتقل عبر الحيوانات الموجودة، وهو لا يكون مرضاً جديداً، ولكن ميكروب مسبب لمرض جديد يطور نفسه، لأن الميكروب زى الإنسان يعيش ويطور نفسه».
وتضيف «جودة» أن الحيوانات المهربة التى تكون مناعتها ضعيفة تموت فى الطريق بين ليبيا ومصر فيتركها المهرب، وحتى هذه تكون فى منتهى الخطورة بسبب الحيوانات البرية كالذئاب والثعالب والكلاب التى تأكلها وينتقل إليها الميكروب وتقوم هذه الحيوانات بنقل الميكروب للمناطق التى بها مزارع ومراع، وأن الطيور الجارحة تتغذى على الجيف النافقة وتنقلها للأماكن التى تحط فيها، وأن الميكروب ينتقل عن البعوض والحشرات أيضاً فهى تُعد ناقلة للمرض، متابعة: «أنا كنت أزور المنطقة الغربية أسفل منطقة سيدى برانى بنحو 200 كيلومتر، وكنا نرى آثار هذه السلالات الجديدة للأمراض، أشهرها سلالة تسبب إجهاض الإبل، ورصدنا شكاوى من سكان الوديان والنجوع فى الصحراء، وهذه سلالات لم تكن موجودة، خاصة أن الجمال معروف عنها إصابتها القليلة بالأمراض لأن مناعتها قوية جداً، ولما عملنا جينات وراثية لقيناها سلالة مطورة لم تكن موجودة لدينا».
لكن الدكتور أحمد عبدالكريم، رئيس الإدارة المركزية للحجر البيطرى والفحوص التابع لوزارة الزراعية المصرية، وهى المسئولة عن تنظيم الاستيراد والتصدير من الناحية الصحية البيطرية لجميع الحيوانات أو المنتجات ذات الأصل الحيوانى، يؤكد أن إدارته تستعين بمحاجر خاصة بديلة عن المحاجر الحكومية فى المناطق الحدودية لفحص المواشى التى يتم ضبطها من قِبل سلاح حرس الحدود المصرى، مشيراً إلى أن هناك محجرين فى سيدى برانى وآخرين فى منطقة رأس الحكمة، وأنه يتم الاستعانة بها فى حالات الطوارئ حينما يتم ضبط كميات كبيرة من المواشى المهربة المقبلة من ليبيا، وأن المحجر الحكومى أُغلق قبل نحو 20 عاماً لعدم وجود تبادل تجارى مع ليبيا فى اللحوم والمواشى.
وأكد «عبدالكريم» أنه يحظر دخول أى حيوانات من أفريقيا للتداول الحى وأن أى حيوانات تأتى إلى الحدود مهربة تُذبح لتدخل البلاد لحوماً، لذلك لا يوجد أى تداول للحيوانات الحية بين مصر وكل الدول الأفريقية، قائلاً: «وطالما أتت بشكل غير قانونى، تحصل على مجالها فى القضاء، ويتم مصادرتها وتدخل لحوماً، وهذا الموقف من الدول الأفريقية اتُخذ بسبب توصيات لجان علمية فى الهيئة عندنا، تعقد اجتماعاتها لدراسة الموقف الوبائى للدول ووضع شروط الاستيراد منها، وليبيا وكل دول أفريقيا بها أمراض غير مسجلة فى مصر، ولو دخلت للأراضى المصرية ستسبب خسائر فادحة».
ويضيف «عبدالكريم» أن الحيوانات المهرَّبة لا يظهر عليها الإعياء رغم أنها تكون حاملة للمرض بسبب تحصنها بأجسام مضادة، لكنها تؤثر على الحيوانات المصرية، وأن هناك أمراضاً «مجزرية» لا تظهر إلا بعد تشريح الحيوان فى المجزر، وهذه ما يتم كشفها بالفعل مع الحيوانات المضبوطة، كما أن 80% من أمراض الإنسان يكون سببها تناول منتجات حيوانية غير مفحوصة جيداً، متابعاً: «أديك مثال بسيط، عندك السل والسعار ومرض البروسيلا، كل دى أمراض مشتركة بين الإنسان والحيوان».
على الجانب الآخر من القصة، يقول العميد عبدالنبى أبوبكر بلل، مدير مديرية جمارك البطنان فى ليبيا، إن عمليات نقل المواشى من ليبيا إلى مصر تتسبب فى ارتفاع أسعار اللحوم داخل المدن الليبية وإنها زادت بمعدل 100٪ خلال السنوات الماضية، كما تؤثر على الجانب المصرى بسبب دخولها من دون فحص بيطرى، ما يسمح بنقل الأمراض إلى الحيوانات المصرية، وضياع للضرائب الجمركية المصرية، وإن ليبيا نفسها تقوم باستيراد المواشى من أوروبا لوجود نقص فى الثروة الحيوانية فى ليبيا لأنها دولة صحراوية، وسواء المواشى الليبية المحلية أو المستوردة غير مسموح بتوريدها، معلقاً: «القانون الليبى يمنع تصدير أى سلعة استوردتها ليبيا بموجب اعتمادات مصرفية، واستيراد المواشى من أوروبا يُعتبر دعماً للمستوردين لأنهم يحصلون على قيمة الاعتمادات بالعملة الصعبة وبالسعر الرسمى وهو سعر منخفض وجيد جداً، ويعطى فرصة للتاجر لبيع بضاعته بأرباح ممتازة».
ويضيف «بلل» أن التجار هم من لهم اليد الطولى فى العملية لأن ليبيا ظروفها الأمنية والسياسية صعبة والسيطرة على الحدود عملية صعبة جداً.
تبقى هذه الصحراء الكبيرة الواقعة على الغرب مجالاً مفتوحاً لمهربين لا يتوانون عن نقل رؤوس وقطعان كبيرة مقبلة من ليبيا حاملة أمراضها معها، فيما لا تزال الحيوانات المصرية مهدَّدة من أخرى دخيلة تعبر الحدود تحت سيطرة مهربين لا يمسكون سوى عصا يهشون بها على غنمهم ومواشيهم، لتظل هذه العصا مصدر تهديد للثروة الحيوانية فى مصر.