عشت وأعيش مهموماً بسؤال يلاحقنى ويلح علىّ، ما جدوى الكلمات؟.. هل لها قيمة فى ذاتها، أم قيمتها فى ما تدلى به وتعبر عنه وتحدثه من تأثير؟ وهل تنفصم القيمة إن كانت عن الفعل والعمل والسلوك؟
كانت الكلمة ولا تزال عدتى، فى طلب العلم وتحصيله، وفى التعبير عما أشاء، كتابةً وشفاهةً، وفى عملى بالمحاماة، وشغفى بالفكر والأدب، وأداتى للكتابة والتأليف.
لكن ما قيمة الكلمة المجردة إذا انفصمت عن الفعل.. ألم يحذرنا القرآن الكريم من ذلك وقال لنا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ» (الصف 2، 3). ألم تتعدد أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى الحث على الربط بين الكلمة والفعل، وأن تكون الأفعال مصداقاً للكلمات، وحَذَّرَ من ابتعاد ما يقال عما يجب أن يُعمل، وعن الرياء الذى لا يصادقه عمل!
تحديات لا مفر من مواجهتها
صار قدراً علينا أن نتصدى وأن نقاوم موجات الإرهاب، وكيانات وهجمات الإرهاب والتطرف والضلال، وموجات التحريف الجهول المتعمد للدين، وتشويهه ليستقيم لهؤلاء الطغاة تبرير ما يفعلون ويرتكبون!
وصار قدراً علينا أن نتصدى وأن نقاوم التسلل وتسريب الأسلحة الثقيلة والخفيفة إلى أراضينا، والتهجم الذى يأتينا عبر حدودنا الشاطئية والبرية البالغة أكثر من خمسة آلاف كيلومتر، وأن نتصدى ونقاوم الهجمات والإغارات المرتبة والعشوائية التى تختار لنفسها المكان والزمان.
وصار قدراً علينا أن نتصدى ونقاوم مخططات وتغولات الدول الكبرى، والتعدى على حقوقنا، وللمؤامرات التى تُحاك ضدنا فى الداخل والخارج.
وواجب علينا تصحيح مفاهيم الدين، وتجديد الفكر والخطاب الدينى والتربوى والتعليمى والثقافى والفنى، وأن نجدّد أبنيتنا المادية والمعنوية، وأن نرعى الاستنارة والتنوير، وأن نكرّس جهودنا لإثراء الانتماء الوطنى ورعايته وتخصيبه وتوظيفه، وأن نبث روح التفوق والترقى لرفعة الوطن.
المخاطر التى نواجهها كثيرة ومتنوعة وتملك خططها وإمكانياتها وأدواتها.
وآمالنا وغايتنا التى نتمناها لوطننا وشعبنا عريضة عراضة الدنيا وعراضة الوطن.
ونحن بين هذه وتلك، لا نملك إلا التصدى والتفاعل بقوة.
ولكن السؤال كيف وبأى وسيلة وأسلوب؟..
أرقٌ ملازم..
فى ما عدا سبعة عشر عاماً أمضيتها ضابطاً عاملاً بالقضاء العسكرى بالقوات المسلحة، العمل عدتى، كما الكلمة، شاء نصيبى أن أُحرم من أى عمل تنفيذى فى بلادى، بينما أحمل فى جوانحى حبّاً جارفاً لوطنى، وأفكاراً له، صقلتها السنين، واهتماماً حتى النخاع بهمومه ومعضلاته، وآماله وقضاياه، ورغبةً قويةً لم تفارقنى قط فى أن أبذل له قصارى مستطاعى.
لكن؛ ماذا أفعل وأنا محروم من الفعل، ولم تبق لى سوى الكلمات؟.. ولكن ما قيمة الكلمة بغير فعل؟! لا أقصد الفعل الشخصى فى الحياة بما يتفق وما لا يتفق مع الكلمة.. ليس هذا ما أعنيه بالأرق الملازم، فقد حاولت بكل مستطاعى أن ألتزم بكل ما دعوت إليه من قيم ومبادئ وأفكار، ولكن أرقنى -ولا يزال- حرمانى من النشاط المادى الذى يحرك الأشياء ويتصل بالنتائج اتصال السبب بالمسبب.. كنت موصولاً فى القوات المسلحة بهذا النشاط الفاعل، لا يشغلنى قط أننى قاعد، أو يمكن أن أكون قاعداً..
هذه السببية ينعم بها كل صاحب قرار ودور، وينعم بها كل صاحب صنعة أو عمل يؤدى بنشاط مادى.. السببية أو الرباط الذى يشعر به المهندس والبنّاء والرسام والنحّات، والزارع والصانع، والفلاح والعامل، والخزّاف والنجار والحداد والأستورجى والزجَّاج.. كل واحد من هؤلاء يرى ثمرة قراره، أو فعله أو نشاطه أو عمله الذى يواليه تنفيذاً ومتابعةً وتخليقاً ومراجعةً وضبطاً.. وهذه نعمة كبيرة قد تغيب عن هؤلاء حملة أسباب التأثير فى تيار الحياة.
هل أغنتنى الكتابة والمحاماة؟!
ربما كان الأرق من الحرمان أقل وقعاً فى المحاماة، فأنت فيها تقوم بما يشبه الفعل بالكلمة بالمرافعات والمذكرات، وقد تثمر حكماً ببراءة برىء، أو بإنصاف مظلوم، أو إحقاق حق.
بيد أن هذا فى الواقع قد يكون سراباً! لأن المحامى لا يقضى ولا يحكم، والحكم معلق بفعل وقضاء وحكم سواه.
يبدو هذا التساؤل أكثر إلحاحاً فى الفكر والأدب والكتابة.. فهذا كله قد يتصل وقد لا يتصل بدوائر المخاطبين، وهو إن اتصل بمتلقين لا يبدو له لدى المفكر أو الأديب أو الكاتب جوابٌ محسوس يأتيه من المتلقين، حتى إن حدث الأثر أو التأثير.. فهو لا يبين إن كان إلا مع توالى السنين، وكم من رسّام ونحّات ومفكر وفيلسوف وأديب وكاتب قضى نحبه دون أن يرى أى أثرٍ لعمله.. وربما رأى عكس مراده وغايته وما يصبو إليه.. عانوا وكابدوا بلا إحساس بعائد، مثل ڤان جوخ وغيره من عباقرة الأدباء والمفكرين والفنانين. ترى ذلك قد حدث مع عباقرة وأفذاذ فى التاريخ، ناهيك بغيرهم ممن لم يبلغوا هذه الدرجة من العبقرية!
إن كلاً من هؤلاء إلا فى ما ندر معزول عن رؤية أثر ناتج عمله، هل أضاء أم لم يضئ، أصلح أم لم يصلح، حرك السواكن أم لم يحرك، غيّر وبدّل أم قوبل بالإعراض وذهب أدراج الرياح، دون أن يعبأ به أو يلتفت إليه أحد؟!!
صعب جدّاً، بل ربما مرير، أن تستمر فى القول والكتابة وأنت مفصوم عن دنيا المتلقين، أو محروم من أن تُتَرْجَم كلماتك إلى أفعال، وأن تؤثر فى ما تتغيّا التأثير فيه.. أن تكون حياتك كلاماً فى كلام فى كلام!!
إن تلال الكلمات لا تغير سياسة خاطئة تجرى، أو قراراً غير صائب يوضع موضع التنفيذ، وهى لا تبنى مصنعاً، ولا تقيم منشأة، ولا تزرع أرضاً.. قصارى ما يتمناه صاحبها أن تُسمع وتحدث أثراً!
لماذا إذاً القتال بالكلمات؟!
الكلمة هى إذاً النافذة الباقية للإسهام فى نهر الحياة، مكتوبة بالقلم، أم مشافهة باللسان.
بدا لى أن ارتفاع نبرة الكلمة، والقتال بالكلمات، رد فعل نفسى، أو هو إحساس داخلى يتغيّا بالوعى أو باللاوعى أن يكون للكلمات دورٌ لا يحرمها من «السببية»، ويقيها أو يقى صاحبها من الإحساس باللاجدوى!
على أن القتال بالكلمات لا يعنى أن تسف وتتدنى، أو تتذرع بالغاية للصخب والهدير، أو البذاءة والإساءة. قيمة الكلمة فى تعبيرها عن العقل والمعرفة والحكم، ووضع هذه وتلك فى خدمة ودعم الغايات والأهداف الوطنية.
الصخب والصياح والهدير عجزٌ وفراغ.
والكلمة بلا عقل ولا فكر هى والعدم سواء، وقد تكون أسوأ من العدم.
قيمة الكلمات بقدر ما تحمله وتعنيه، وبقدر ما توقظ به وتنبه إليه، وبقدر ما تحدث من أثر يجرى فى مجرى الكفاح الوطنى، متلازماً مع الفعل المتاح لمن يملكون القرار، ولمن يملكون آليات تنفيذه!
لقد قاتلت بالكلمة فى المحاماة!
وقاتلت بالكلمة فى الأحاديث، وفى المقالات، وفى المؤلفات!
لا أملك قراراً، ولا أداةً، ولا سلاحاً، ولا منفذاً إلا الكلمة.. هى عدتى ووسيلتى ولا شىء سواها.. بها عبرت وقاتلت وسأبقى أقاتل بها ما بقى لدىّ ما أقوله.
لكننى كثيراً ما أتساءل: ما جدوى الكلمات؟!!!