كان الرئيس أنور السادات، رحمه الله، يكره التفاصيل بقدر ما أحب الانشغال بالقضايا الاستراتيجية، وروى عنه الكاتب الكبير أنيس منصور، فى مقال بمجلة أكتوبر بعد وفاته، أنه التقاه فى حديقة استراحة القناطر عقب توليه الرئاسة، وكان مساعدوه يعرضون عليه تقارير كثيرة فأزاحها جميعاً، وقال لهم «أبعدوا الأوراق دى انتم عاوزين تموتونى زى عبدالناصر بالتقارير دى كلها».
كنا فى جيلى نتهكم على هذه الروايات حين تداولها، معتبرين أنه غير مهتم ولا مشغول بأمور الدولة ومشاكلها اليومية، لكنى وبعد عشرات السنوات على رحيله تفهمت معنى أن تضع أهدافاً استراتيجية وتُحرك الأحداث ناحيتها لا أن تترك الأحداث تتولى تسيير شئونك.
من أخطر ما أقدم عليه السادات كان إعلانه التوجه إلى الكنيست، ورغم ما أحاط بالقرار من أقاويل وروايات عن وساطات وقنوات أوروبية وأمريكية ومغربية، إلا أنه حقق متغيراً استراتيجياً بنقل مسار الصراع العربى - الإسرائيلى من معسكر الحل العسكرى إلى الحل السلمى، وهو الذى انعكس فى دعوة العرب بعد سبع سنوات من استشهاده لعقد مؤتمر دولى للسلام ثم بعد 14 عاماً أخرى لإعلان المبادرة العربية للسلام عام 2002 ونبذ فكرة الحل العسكرى.
تمكن الرجل من صياغة رؤية متناقضة مع مسار طويل للصراع وكان شجاعاً، وهو يعلم بخبرته العميقة أنه فى طريقه لصدام مع معتقدات ومفاهيم راسخة ستقلب مسيرة الصراع، ومن الصعب تقييم ما فعله السادات بـ«القطعة» ولكن مسيرة طويلة شهدت صعوداً وهبوطاً وانتصارات وانكسارات للأمة -بغض النظر عن المسئولية- تؤكد أن ما أقدم عليه الرجل غير المسار جذرياً.
حين أقدم السادات على حرب أكتوبر كان يعى جيداً أنه لا مجال للمطالبة بالأرض المحتلة واستردادها من دون قوة تعيد التوازن إلى مساره الصحيح، لذلك أعلن من منصة مجلس الأمة فى 16 أكتوبر رؤية مصر للسلام وهى منتصرة، وهى الرؤية التى تواصل بها حتى زرع بذرة مسار الحل السلمى للصراع.
ما بين أكتوبر 73 ونوفمبر 77 وقت زيارة القدس مهد السادات الطريق بإعلان سياسة الانفتاح الاقتصادى فى عام 74 ثم أعلن التعددية الحزبية فى نوفمبر 76، فى خطوتين حققتا انقلاباً فى المجتمع المصرى استهدف التمهيد للمتغير الاستراتيجى المستهدف والانخراط فى المجتمع العالمى، فلم يترك الأمر للصدفة أو للدعاية، ورغم كل التحفظات على أوضاع الديمقراطية والحريات أو انفتاح «السداح مداح» حسب توصيف الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين وقتها إلا أن السادات اعتبر التحفظات «أمراً طبيعياً فى بداية التجربة» وصمم على المواصلة لتحقيق الهدف الذى خطط له رغم العقبات وانتفاضة يناير77.
تتفق أو تختلف مع السادات وقد كنت واحداً ممن زاروا السجون بسبب هذا الخلاف، لكنك لا تستطيع إنكار أن الرجل كان ينتمى إلى معسكر القادة أصحاب الفكر الاستراتيجى.