اختتم عام 2018 بتغييرات جوهرية فى الأوضاع والتوازنات الجيواستراتيجية بالشرق الأوسط.. «ترامب» قرر سحب القوات الأمريكية، لا باعتباره رئيساً لقوة عظمى، عليها التزامات دولية، تجاه مصالح الأمن القومى الأمريكى، والحلفاء الذين ساندوها فى حرب «داعش»، وإنما كرجل أعمال، استكثر إنفاق 7 تريليونات دولار منذ دخلت أمريكا منطقة الشرق الأوسط 2001.. «ماتيس»، وزير الدفاع، و«ماكجورك»، المبعوث الدولى للتحالف، استقالا اعتراضاً على القرار، لقناعتهما بأن الدولة العظمى هى القوة الفاعلة، التى لا تنكمش داخل حدودها، تنتظر أفعال المنافسين، وأطماعهم.. «أردوغان» أصابه الذهول، عندما كلفه «ترامب» بمهمة تطهير سوريا من «داعش»!!، قبل أن يهبها له: «سوريا كلها لك.. لقد انتهينا»!!، وذلك فى اتصال قصير، قد يصلح لإنجاز صفقة تافهة، لكنه بالقطع لا يناسب خطورة تداعياتها، ولا يستقيم مع ما قدمته تركيا من تسهيلات، لتجميع إرهابى العالم بسوريا.. «ترامب» راهن على تفكيك «المحور الثلاثى»؛ روسيا وإيران وتركيا، وإعادة «أردوغان» للتحالف الغربى، بعد أن أغراه برفع الحماية عن خصومه الأكراد، ووعد بتسليمه 120 طائرة من طراز إف 35 الأكثر تطوراً، ومنظومات صواريخ «باتريوت»، وإعادة بحث موضوع خصمه فتح الله جولن.. لكنه لم يدرك أن «أردوغان» فقد الثقة فى «واشنطن».
«أردوغان» تحمل مخاطر احتمالات الصدام مع روسيا لحساب الغرب، بتبنيه اتجاهاً عدائياً لسياساتها بالمنطقة، كان أبرزها إسقاط طائرة السوخوى الروسية «نوفمبر 2015»، وعندما أدرك أن الغرب كان ضالعاً فى محاولة انقلاب «يوليو 2016»، استدار وتحالف مع «موسكو»، التى فوتت محاولات إجهاض ذلك، باحتواء أزمة اغتيال سفيرها بأنقرة «ديسمبر 2016».. تركيا طلبت «الباتريوت» منذ 2013، «واشنطن» رفضت، فاتفقت مع الصين على منظومة بديلة، لكنها اضطرت لإلغائها «نوفمبر 2015» نتيجة للضغوط الأوروبية، والوعد بسرعة تزويدها بـ«الباتريوت»، وعندما خذلوها، اتجهت لمنظومة «إس 400» الروسية، مما يبرر رفضها إلغاءها حالياً، حتى بعد إقرار «الباتريوت».. روسيا حاولت تأسيس علاقة خاصة مع الأكراد، لكنهم انحازوا لـ«واشنطن»، التى استغلت تطلعاتهم لدولة مستقلة، لتحويلهم لذراع عسكرية للضغط على سوريا، فأعطت «موسكو» الضوء الأخضر لتركيا؛ عملية «درع الفرات»، طردتهم من المنطقة الحدودية غرب الفرات، و«غصن الزيتون» أخرجتهم من عفرين، وعندما قررت أمريكا الانسحاب باعتهم لـ«أردوغان»، ليذيقهم مرارة مذابح الأرمن.
بمجرد انتهاء المكالمة مع «ترامب»، دفع «أردوغان» بالحشود التركية وقوات الفصائل السورية الموالية للمنطقة الحدودية، وقرب خطوط التماس مع «قوات سوريا الديمقراطية الكردية» بمحيط منبج، وأرسل وفداً لموسكو يضم وزيرى الخارجية، مولود تشاوش أوغلو، والدفاع، خلوصى آكار، ورئيس المخابرات، هاكان فيدان، لضمان موافقتها على التدخل العسكرى، وقبل أن يغادروا موسكو كان وفد كردى قد أنهى زيارته، واتفق على أن يوجه المجلس العسكرى لمنبج الدعوة للجيش السورى لدخولها، وحمايتها من التهديدات التركية، وفى عملية خاطفة انتشرت القوات السورية مطعمة بعناصر الشرطة العسكرية الروسية على تخوم منبج من الشمال والغرب، بين مناطق السيطرة لكل من الأكراد والأتراك 28 ديسمبر، الكريملين اعتبر ذلك «تطوراً إيجابياً يساهم فى فرض الاستقرار»، والخارجية الروسية أكدت «حق سوريا فى تسلم المناطق التى توجد فيها القوات الأمريكية بعد انسحابها وفقاً للقانون الدولى»، وبدأت مباحثات كردية سورية فى القامشلى، لبحث شروط وآليات دخول الجيش السورى للمناطق الكردية.. روسيا أعادت فتح مركز التنسيق العسكرى غرب منبج بعد انسحابها منه قبل فترة، استعداداً لتولى شئون المنطقة.
روسيا تسعى لإفساد الرهان الأمريكى على تفكيك «المحور»، بمحاولة تلبية مصالح كل الأطراف، تركيا ستطلق يدها فى المنطقة الحدودية غرب الفرات، ولكن لن يسمح لها بالعبور لشرق الفرات، لأنها تمثل 27% من مساحة سوريا، وتقع فيها 90% من الثروة النفطية، و45% من إنتاج الغاز، وسوف يتم وضع ترتيبات تعيد سيطرة النظام عليها، وتطمئن تركيا، وربما سمحت لها ببعض التوغلات المؤقتة المحدودة، لتطويع الميليشيات الكردية على النحو الذى يكفل استجابتها الكاملة للترتيبات الروسية والإدارة السورية، النظام قد يُسمح له أيضاً بالعودة لبعض المناطق الأخرى بعد تسوية ملف إدلب، وإن كان الموقف الروسى هنا يثير القلق بسبب رد «لافروف»، وزير الخارجية، على وصف سوريا للوجود التركى فى إدلب بأنه «احتلال»، بأن «هذا الوجود تم بموجب مذكرة سوتشى سبتمبر 2017، التى قبلت بها الحكومة السورية، ودعمتها إيران»، رغم أن سوريا لم تحضر المؤتمر، ولم يُستطلع رأيها، ولا تملك حق الرفض.. مأساة فادحة، تثير الأسى، وتبعث على الشفقة.
للأسف، الموقف العربى يفتقد أى توافق على موقف سياسى داعم للدولة السورية، لأن البعض ما زال متأثراً بعدائه السابق للنظام.. لا يوجد أى تقدير موقف يتناسب وسرعة تطور الأحداث المصيرية بالمنطقة، ودول «المحور»، روسيا وتركيا وإيران، الذين يستأثرون بعملية التسوية، من خلال اتفاقات أستانة وترتيبات سوتشى، يتقاسمون الغنيمة.. «سوريا يا عرب على مائدة اللئام»، وأنتم تتطلعون فى صمت، وكأنكم لا تدركون أن اغتصاب أى أرض سورية يشكل خصماً من الأمن القومى العربى.
حتى التحركات الثنائية العربية تسير الهوينا؛ زيارة «البشير» فقدت زخمها العربى بانكفائه على الوضع الداخلى، دبلوماسية فتح المعابر مع الأردن والعراق، واستئناف الرحلات الجوية بين دمشق وتونس، والنقل البرى بين السعودية وسوريا، كلها تحركات اقتصادية بطيئة، قد تنهى عزلة النظام، لكنها خارج ملعب السياسة.. إعادة فتح سفارة الإمارات، والزيارة المرتقبة للرئيس العراقى، برهم صالح، لـ«دمشق»، واستقبال «القاهرة» لعلى مملوك، رئيس الأمن الوطنى السورى، كلها خطوات إيجابية على طريق تطبيع العلاقات الثنائية، لكن المطلوب تحرك جماعى يستثمر تخلى السعودية عن تحفظاتها تجاه النظام، ويستبق التحركات القطرية المدعومة إيرانياً، وينسق لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، ودعوتها للمشاركة فى قمة تونس مارس المقبل، لا أن ننتظر عقدها لبحث المبادرة الجزائرية، أو معرفة نتائج التحركات المصرية.. وبالتزامن مع كل ذلك، ممارسة كل أنواع الضغط السياسى على روسيا؛ لمنعها من تلبية مصالح دول «المحور» على حساب المزيد من الأرض العربية، والضغط على تركيا من خلال مصالحها الاقتصادية بدول المنطقة، خاصة الخليجية، لمنعها من التهام المزيد من التراب الوطنى السورى.
سوريا خرجت من الحرب منتصرة، لكن جراحها تسيِّل لعاب الضباع.. فهل تتحرك النخوة العربية لنجدتها؟! دفاعاً عن الأمن القومى العربى، وأراضيه المستباحة.