أن تكتب عن «سناء البيسى»: مشكلة.
عن أى «سناء» تكتب؟.
عن الفنانة التشكيلية، التى تتخفى وراء لوحاتها (تواضعاً أو استحواذاً)، فلا ترى فى اللوحة إلا روحاً طاغية تذوب فى اللون، وتمشى -بخفة ودلع- فى محاذاة الخط، وتترك فيك سؤالاً: من يشبه الآخر: هى أم لوحاتها؟!.
عن ابنة «أخبار اليوم»، ربيبة «على ومصطفى أمين»، التى خرجت من هذه المدرسة بنتاً تشبه جوهر مهنتها: الشغب، والجرأة، والخيال المنفلت، والافتتان بالتفاصيل!.
عن رئيسة التحرير، التى جمعت فضائل المهنة وأفاضلها فى «نصف الدنيا»، وظللت عليهم كباراً وصغاراً مثل صفصافة. تنادينا كأم: «يا حبيبى»، ونتقافز حولها كشياطين صغيرة: «يا أستاذة». تبث فينا ذلك المزيج النادر، المدوخ: روح المهنة، وروح الملكة المتوجة، الجالسة فى برج حنانها وطيبة قلبها!.
عن دأب الكاتبة ولهب الكتابة، يسريان فى لحم الورقة كحديد مصهور، سرعان ما يتشكل وردة نار فى جنة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ولويس عوض وزكى نجيب محمود وغيرهم من جهابذة الاستنارة: إذا أخذت مزقة ورق من حكايات (هو وهى) فى «أهرام الجمعة»، وتقصيت جملة تتجاوز الأربعين كلمة وأنت تلهث مستمتعاً كأنك تسعى إلى كنز، فاعلم أنك تلاحق «أثر سناء البيسى». إذا لفحتك روائح الطيبين، وأغشاك لمعان الأشرار فى الحكاية، فاعلم أنك تلاحق «أثر سناء البيسى». إذا أحسست ترفعاً فى «الكل» ودفئاً فى «التفاصيل»، فاعلم أنك تلاحق «أثر سناء البيسى».
عن المرأة الشامخة، المتعففة كسيدات القصور، البسيطة كأمهاتنا ونحن نلهو بالمهنة -فى بلاطها المهيب- تحت عينيها!.
عن أى «سناء» تكتب؟
اكتب عن أى شىء وكل شىء «تحبه»، وأنا أضمن لك أن تجد فيه بعضاً من «سناء البيسى». فـ«كلها» مستعصٍ، وجزؤها يحيطك ويفيض. وأقول لك بصراحة: ليس فى الكتابة -كما تعلمتها- ما يوفيها حقها.. أنا بالذات: المحظوظ بعصاها وسبورتها، المدين لها بـ«سحر الكتابة» وترفّعها. ولو سُئلت أمام الله: من علمك الكتابة؟. سأقول: قليلون.. أولهم «سناء البيسى».
هى «أمى فى المهنة». وبفضل ما علمتنى، أقف الآن صلباً، مضيئاً، كفرع يستند إلى جذر فى عاصمة لا ترحم مُنبتّاً ولا تغفر لكسول متخاذل.
هى الآن فى بيتها معززة، مكرمة، تتأمل رحلتها فى بلاط صاحبة الجلالة وعلى وجهها ابتسامة رضا. أتواصل معها لأسمع وأستمتع بنبرة صوتها وهى تسألنى عن صحتى وأحوالى فى الشغل: لم يتغير فى صوتها شىء.. الدفء والطيبة والشموخ. وأظن أنها تزهو بـ«أولادها»، فروع صفصافتها، وقد ملأوا الدنيا بعطر ذكرياتهم فى بلاطها: هم كثر، وأكثر قليلاً من أن تسميهم «تلاميذ».
هى الآن فى بيتها، تكتب وترسم وتنظر إلى ظلال اللوحة وألوانها المبهجة من شباك محراب فوق ذروة، حيث لا صغائر تعيق وصول صوتها إلى الله.
سناء البيسى أصدرت كتاباً.. كتبت مقالاً.. رسمت لوحة: هذا ليس خبراً يعقبه مقال، بل «طوق نجاة». فالكتابة هذه الأيام تغرق، والصحافة تغرق، والأمومة المهنية تغرق. وفى المجمل: صدئت العقول وتحجرت القلوب، وإذا لم تكن مررت ببشر من نوع سناء البيسى (اشتغلت معها واقتربت من جوهرها وأصابك «مسها») فأنت لا عرفت ولا كتبت ولا عشت.
هل أبالغ؟. هى تستحق. هل تزيدها كتابتى عنها أو عن كتابها ومقالها ولوحتها؟. لا أظن، والسؤال فى غير محله. أنا فقط أرد إليها بعض ما أخذت. أطمئنها على غرسها. أغازل سحرها.. وأوثقه.
طوال عشر سنوات -منذ تخرجى فى «إعلام القاهرة»، وكانت لهاثاً بين مؤسسات قومية وصحف حزبية ومكاتب خليجية- كنت أشعر أن «الأهرام» بالنسبة لى مكان كريه، خانق. مكان أقرب إلى «مقبرة فخمة»، لكثرة ما فيه من رخام وصور موتى وأشباه صحفيين، وصحفيين محنطين، كانوا واعدين وانتهت أعمارهم الافتراضية. وعندما قُدرَ لى أن أعمل فى هذه المؤسسة عام 1991 اخترت مجلة «نصف الدنيا»، استجابة لإلحاح صديق وزميل دفعة هو «علاء العطار». لكننى اشترطت عليه أن يتم تعيينى أولاً. فكفاءتى وخبراتى بعد كل هذه السنوات من «المرمطة» لم تعد محل اختبار. وكنت رفضت عرضه من قبل، لأننى لا أحب أن أكون صحفياً فى «الأهرام». لكنه طمأننى، وقال إننى سأعمل فى مجلة ترأس تحريرها كاتبة ومهنية موهوبة هى «سناء البيسى»، فلم أتردد. لكن الأهم -وهذا ما اكتشفته عندما اشتغلت معها- أنها تعشق الموهوبين، الطامحين، إذ تنتمى إلى مدرسة «أخبار اليوم»، وتعتبر نفسها تلميذة لـ«على ومصطفى أمين». وعندما كانت تصد عنى مكائد الزملاء وغيرتهم من تدليلها لى، كانت تقول بابتسامة فرح وثقة: «سيبوه.. أنا عايزاه كده.. كسول وموهوب».
كانت فترة عملى فى مجلة «نصف الدنيا» نقطة تحول أساسية فى علاقتى بالصحافة، وبالكتابة على وجه التحديد. كان تصنيفى حتى ذلك الوقت «محرراً فنياً»، ومن باب السخرية أو الكيد، يقال إننى «بتاع رقاصات»، مع أننى لم أتعامل مع أى راقصة طوال عملى فى الصحافة الفنية. والمرة الوحيدة حدثت حين ذهبت إلى الراحلة «تحية كاريوكا» بعد أن اعتزلت الفن وضربها شغف «الدروشة» والموالد، ولم تعد ترتدى إلا الجلاليب و«الطرح» البيضاء.
لم تكن «نصف الدنيا» مجرد مجلة نسائية: طبيخ وأزياء وديكور وعلاقات غرف نوم وانحياز أعمى، غير واعٍ، لقضايا المرأة، بل كانت ساحة نقاش مفتوحة لكل ما هو سياسى واجتماعى وثقافى ومعيشى. رفعت «الأستاذة» -كما كنا نناديها- سقف الكتابة إلى ذروة لم أكن أحلم بالوصول إليها. كنا أربعة صحفيين شبان، نشكل معاً ما يسمى «مجلس التحرير»، وهو القائم بكل أعمال «الديسك». وكنا جميعاً نكتب الشعر أو القصة أو كليهما. ولكل منا تجاربه ومغامراته المفعمة بالصدق رغم بدائيتها. وقد بلغ زهو «الأستاذة» وفرحها بنا أن فاجأتنا ذات يوم باقتراح لا يأتى إلا من رئيسة تحرير تربت بعيداً عن عقد أبناء الأهرام ونفختهم الكذابة، هو أن نكتب أربعة مقالات شهرية بالتبادل فى الصفحة الأخيرة من المجلة. واختارت للصفحة عنواناً ثابتاً هو «الطير المسافر»، على أن يختار كل منا عنوان مقاله بنفسه.
أطلقت «الأستاذة» شيطان الكتابة فى داخلى بكل شططه وشراسته، وبكل ما فى «الشيطنة» أيضاً من عذوبة وجمال. كانت تلك أولى تجاربى فى كتابة المقال، لكننى -بفضل تشجيعها وليبراليتها- لم أجفل، ولم تهتز يدى فى فكرة أو جملة أو حتى كلمة. كنت أكتب وأترك لها مهمة «تطهير» المقال من الألغام. وإذا أرادت أن تخفف شططاً فى عنوان أو متن، كانت تستحى أن تفعل ذلك إلا فى حضورى.. وبالمحايلة والطبطبة أحياناً.
لقد كان لهذه المبدعة، وما يزال، دَين فى عنقى لن أنساه، حتى بعد أن غضبت منى ونقلتنى من «نصف الدنيا» إلى «الطبعة الدولية» بتأثير وشاية من زميل يتعاطى الشعر، وكلما حاول أن يمتطى صهوته سقط.
هل تصدق أننى أحببت غضب سناء البيسى بقدر ما أحببت عصاها وسبورتها؟.