«مهنة المتاعب، والسلطة الرابعة، وصاحبة الجلالة»، ثلاثة ألقاب اكتسبتها مهنة الصحافة على مدى السنين، هى مهنة المتاعب نظراً لمعاناة الصحفيين وتضحياتهم من أجل الحصول على الخبر والكشف عن الحقيقة، أينما كان الحدث، فى أية ظروف، ومهما كان الثمن، حتى ولو وصل إلى التضحية بحياتهم أحياناً.
والصحافة سلطة رابعة فى المجتمع بعد السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) الحاكمة فى أى دولة فى العالم، لأنها تمنع البعض عن ارتكاب المخالفات، وتدفع أحياناً لتعديل بعض القوانين أو سَنّ تشريعات جديدة لتنظيم حياة المجتمع.
ويبقى لقب «صاحبة الجلالة» هو الأفضل والأهم لتلك المهنة رفيعة المقام، لأن المجتمع من خلاله يتوِّجها بوسام الفخر والاعتزاز، ويمنحها الرفعة والرقى بين كل المهن.
هذه الألقاب الثلاثة بقدر ما تُعد تشريفاً للصحافة، فهى أيضاً تكليف لكل العاملين بها، تكليف بنقل الحقيقة كاملة بكل صدق وشفافية وتجرُّد، وعلى من لا يستطيع الوفاء بالتكليف أن يتنحى جانباً لمن يملك الإرادة أولاً والقدرة ثانياً على الالتزام.
وفى تقديرى أن مهنة الصحافة على المحك منذ سنوات، ولن ندفن رؤوسنا فى الرمال، حتى لا نرى اهتزاز صورتها لدى الرأى العام، بفعل بعض الممارسات من المنتمين إليها أفراداً ومؤسسات.
رأينا -ومعنا المجتمع كله- خلط التحرير بالإعلان، والتداخل بين الخبر والرأى، وإعادة تركيب الصور للتجنّى على شخص ما، أو لتملق مسئول، وبات معتاداً نشر الخبر ونفيه دون أدنى شعور بالخجل.
ولعل الواقعة الأخيرة -وأظنها ستظل تاريخية- المتعلقة بنشر الخبر الوهمى عن تعيين متوفى منذ 11 عاماً وزيراً للنقل، تكشف لنا إلى أين وصل أبناء المهنة بها. خبر وهمى تعمّد صاحبه الإيقاع بمن يجرون وراء الشائعات، ورّط من خلاله 8 مواقع إخبارية وبرنامجين مهمين، ونحو 9 صحفيين على «تويتر»، كتبوه ونشروه على أنه خبر موثوق فيه، ومن مصادر مطلعة.
لم يكلف من نقلوا الخبر بطريقة «كوبى بيست» أنفسهم -كسلطة رابعة أو كباحثين عن المتاعب- مشقة التأكد من الخبر، سواء عبر مندوبيهم فى مجلس الوزراء، أو وزارة النقل، أو الوصول للمرحوم الذى تولى الوزارة!! وبالتالى اهتز عرش صاحبة الجلالة، وخدشت تاجها وحياءها شظايا الاستسهال والاستهبال وقلة الحيلة ممن تورطوا، أو اعتادوا التورط فى مثل هذه الأخبار.
رأينا كيف استقال الدكتور هشام عرفات، وزير النقل، عقب حادث جرار القطار فى محطة مصر، متحملاً المسئولية السياسية عن الحادث، فهل رأينا أحداً من المسئولين عن نشر الخبر الوهمى بتعيين وزير جديد من الأموات، استقال متحملاً المسئولية المهنية والأخلاقية عن تلك الجريمة فى حق المهنة والرأى العام؟ لم ولن يحدث، وهل قامت نقابة الصحفيين، أو نقابة الإعلاميين، أو المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بمحاسبة المخطئين؟ لم ولن يحدث. الجميع يتعامل بدم بارد، من مرتكبى الجريمة إلى المسئولين عن محاسبتهم، ويبدو أنهم يراهنون على نعمة النسيان، وفاتهم أن الإنسان الفرد قد ينسى، لكن المجتمع يتذكر -ولسنوات طويلة- مثل تلك الأحداث، وأخشى أن يسحب من الصحافة لقب «صاحبة الجلالة» ويمنحها لقب «صاحبة الضلالة»، نكاية فى من لا يستحقون شرف الانتماء إليها، وهذا ما يدعو للحزن والأسى، لأن الصحافة مهنة نبيلة.. لا يعيبها إلا بعض من يعملون بها.
يقول الإمام الشافعى:
نَعيبُ زماننا والعيبُ فينا/ وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونَهجو ذا الزمانِ بغير ذنبٍ / ولو نطقَ الزمانُ لنا هجانا