المراحل الانتقالية بعد الثورات الشعبية ضرورة لا بد منها. السؤال الذى يفرض نفسه دائماً يُعنى بِمنْ يدير تلك المرحلة ومدتها الزمنية وأهدافها الأساسية. وفى الحالات العربية التى سبق أن مرت بتلك المرحلة توجد قواسم مشتركة، كما توجد أيضاً اختلافات طبيعية نظراً لحجم المشكلات المطلوب معالجتها وحالة المجتمع ومدى استعداده على التجاوب مع المبادرات البناءة، وأيضاً حجم القوى المضادة التى تعمل كل ما تستطيع لوقف التغييرات الكبرى التى خرج من أجلها المواطنون إلى الشارع. هذه المراحل الانتقالية تتسم بعدم اليقين والارتباك العام واختلاط الأولويات، وغياب الثقة بين الكثير من مكونات المجتمع وبعضها البعض، وعدم الاعتداد بأهمية تسيير الحياة اليومية وإعادتها لحالة تقترب من الوضع الطبيعى الذى يمارس فيه الناس حياتهم وأعمالهم من أجل العيش الكريم، والتمسك بالوجود فى الشارع باعتباره وسيلة ناجحة تقود إلى تحقيق المطالب، وارتفاع التوقعات وتوظيف المشاعر الجماعية بالانتصار بمجرد إزاحة رأس النظام ورفع سقف المطالب بما لا يتناسب كثيراً مع موارد الدولة، واحتراف البعض الحديث باسم الجماهير لمجرد القيام بأدوار تنظيمية فى جلب الناس إلى الشارع.
السودان بعد إزاحة الرئيس البشير فى الحادى عشر من أبريل الجارى من قبَل عدد من كبار قادة الجيش والأجهزة الأمنية يعيش تلك المرحلة الانتقالية بكل إشكالياتها العملية والتنظيمية، والأمر ذاته يحدث فى الجزائر منذ خروج الرئيس بوتفليقة من المشهد السياسى الجزائرى بعد انحياز قيادة الجيش لمطالب الجزائريين بإنهاء عهد بوتفليقة والبدء بترتيب عهد جديد. وكما أثبتت حالات التغيير العربية أن خروج رأس النظام من المشهد السياسى لا يعنى أن التغيير الجذرى قد بدأت دورته بصورة سلسة ويسيرة، فالأمر أولاً وأخيراً يتعلق بميزان القوى فى المجتمع وفى بنية الدولة ككل. وكلما كانت الدولة محل التغيير ذات ارتباطات دولية وإقليمية ولها تأثير ودور فى المعادلات الإقليمية كلما زادت فرص التدخلات الخارجية على نحو يضر بكل شىء، وحالات سوريا واليمن وليبيا شاهدة على أهمية أن تبقى الأمور بيد أبناء الوطن أنفسهم وألا يلجأ البعض إلى الخارج من أجل الاستقواء على الآخرين من بنى جلدته، وأن مرونة المواقف والتنازلات المتبادلة بين الأطراف الداخلية هى الأنسب والأفضل من أجل بناء نظام جديد قابل للعيش والاستمرار بأقل الأثمان والخسائر.
ولا شك أن السودان وشعبه بحاجة ماسة إلى إبداع مسار للتخلص من إرث «إخوان» السودان، وهم «الكيزان» بالتعبير الشعبى الدارج، وصولاً إلى نظام تعددى وديمقراطى، يستند إلى بيروقراطية كفؤة تحسن استغلال الموارد وتحارب الفساد وتقدم فرصاً أفضل لكل السودانيين، وتوظيف الكفاءات المتوافرة كل فى مجاله بعد التوصل إلى رؤية جامعة حول كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، وفى الآن ذاته حماية البلاد من أية اختراقات خارجية محتملة، وتلك مسئولية مشتركة بين الأجهزة والمؤسسات الأمنية والجيش والمواطنين أنفسهم، ومراعاة الموارد المتاحة وحسن تدبيرها وتنميتها، والأهم ضبط المشاعر الجماعية الجياشة وتوجيهها للمشاركة الإيجابية والخروج من دائرة الاحتجاج المطلق وتصعيب الأمور على قيادات التغيير التى لم تكن تحسب أنها ستكون فى مثل هذا الوضع الاستثنائى.
والواضح أن السودان بحاجة إلى حوار بناء بين المجلس العسكرى الانتقالى بقيادة عبدالفتاح البرهان، وكافة القوى السياسية والنقابية والحزبية، للوصول إلى توافق عام حول الخطوات اللازمة لتطبيع الوضع السياسى تدريجيا. وتبدو الخطوات الأولى التى قررها المجلس العسكرى الانتقالى تصب فى التخلص من أبرز سمات التسلط والاستبداد لنظام البشير الإخوانى، كمصادرة حزب أملاك ومقرات المؤتمر الوطنى الحاكم، والإفراج عن المحتجزين من المتظاهرين، ووقف العمل بالقوانين المقيدة للحريات، وتغيير بعض القيادات فى الأجهزة الأمنية وكذلك فى الجيش، وتأكيد على محاسبة المتورطين فى الفساد، ودعوة القوى السياسية للحوار، وهو ما حدث بالفعل يوم 14 أبريل الجارى، بين رئيس اللجنة السياسية فى المجلس الانتقالى وممثلين للقوى السياسية والحزبية، لم يكن بينهم قيادات إعلان الحرية والتغيير، ولكنه لم يسفر عن بداية عملية جادة لوضع النقاط على الحروف، وظهر فيه انقسام شديد بين القوى السياسية أنفسها، وعدم وضوح الرؤية لدى غالبيتها.
انقسام القوى السياسية والنقابية حول إدارة المرحلة الانتقالية وطبيعة دور المجلس الانتقالى من شأنه أن يزيد من تعقيدات الأمور والتى هى معقدة أصلاً. وتبدو المسئولية أكبر على القوى المدنية والسياسية، لأنها هى صاحبة الصوت الأعلى بين المواطنين، وفى الوقت نفسه لا تملك سلطة إدارة مؤسسات الدولة. ونلاحظ هنا مفارقة كبرى، إذ تضمن بيان الفريق عبدالفتاح البرهان تحديد المرحلة الانتقالية بعامين على أقصى تقدير، يجرى فيها إعداد البلاد لنظام سياسى بديل، بينما تطالب بعض القوى المدنية بتسليم السلطة إلى وزارة مدنية تحددها قوى التغيير ودون تدخل من المجلس الانتقالى ولمدة أربع سنوات. وإشكالية هذا المطلب أن هذه الإدارة المدنية سوف تخضع لتوازنات القوى السياسية والتى تبدو غير واضحة ومعرضة للاختراقات الخارجية، كما أنها لا تستند إلى تفويض شعبى عام، بل إلى وضع استثنائى يمكن تفسيره على أكثر من وجه. وفى حالة وجود هذه الإدارة المدنية فمن المرجح أن تثار إشكاليات لا حدود لها مع المجلس الانتقالى، والذى حدد دوراً لنفسه بالتعبير عن سيادة الدولة، وهو ما يعنى أن قرار صدور حكومة مدنية فى حال توافقت عليها القوى المدنية والسياسية سيكون فى يد المجلس الانتقالى.
إذاً تبدو المشكلة الرئيسية فى ظل الظرف الراهن معلقة بجانبين؛ الأول وضع تصور عملى ومترابط لطبيعة المرحلة الانتقالية وأولوياتها بحيث تحقق أهدافها الكبرى فى إحداث التغيير التدريجى لنظام البشير وإعداد المجتمع ككل لنظام سياسى تعددى يراعى خبرة التاريخ السودانى نفسه واحتياجات السودانيين فى الحرية والعدل والتنمية، وأن يشارك المجلس الانتقالى فى هذه العملية. والثانى أن تتوافق القوى السياسية فيما بينها على شكل الحكومة المدنية المطلوبة ومن يشارك فيها ووفق أى معايير. وبالتالى فالمشكلة وحلها معلق بحوار سياسى بناء وشامل. وإذا كان بعض السودانيين يرون أن تجربتهم عليها ألا تتعرض لما تعرضت له ثورات عربية سابقة، فليثبتوا ذلك فى الميدان، ميدان الحوار البناء وليس فرض الحواجز وتعطيل حياة الناس، والسعى باستئثار المكاسب على حساب الآخرين. وإذا كانت يد المجلس الانتقالى ممدودة للجميع لإعادة بناء السودان بما يُرضى طموحات البسطاء قبل الأغنياء، فلتكن أيادى وعقول قادة التغيير أكثر استعداداً عملياً وأكثر انفتاحاً عقلانياً.