على عكس ما يعتقد كثيرون، فإن العلاقات بين السياسة والإعلام تظل حافلة بالتوتر والارتياب والمشاحنات والمشاكسات فى المجتمعات الحية والمتقدمة، وعندما تصبح هذه العلاقات هادئة وناعمة ولا يصدر عنها صوت، فإن هذا يعنى أحد أمرين: موت السياسة أو تأميم الإعلام.
يعطينا التاريخ مئات الأمثلة القادرة على إثبات هذا الطرح، فالمجتمعات الأمريكية أو البريطانية أو الفرنسية أو الألمانية لا تعرف هدوءاً فى العلاقات بين الجسمين السياسى والإعلامى، ولا يتوقف الضجيج الناتج عن اختلافات أو مصادمات بينهما، لكن هذا الضجيج صحى وحيوى ومطلوب، ومن دونه يفقد الإعلام أهم أركان دوره: المساءلة والمراقبة، وتفقد السياسة أهم أركان تدعيم الثقة بها: الشفافية والقابلية للمحاسبة العمومية.
وفى المقابل، ثمة عديد المجتمعات التى عرفت علاقات غاية فى التناغم والاستتباع بين الجسمين السياسى والإعلامى، فهناك كوريا الشمالية، وإيران، وسوريا، والعراق، وليبيا، وتونس، والسودان، والجزائر، وغيرها من الدول التى رأت أن تحول وسائل الإعلام الجماهيرية إلى أدوات للدعاية، وأن تلزمها فقط بإذاعة ما تمليه القيادة السياسة وما يعبر عن إنجازاتها ونجاحاتها، وأن تجبرها على حجب أى مساءلة أو انتقاد، مهما كان موضوعياً وبناء، بدواعى حماية الأمن القومى والمصالح العليا للدولة.
نحن نعرف الآن أن تلك الطريقة لم تكن مفيدة، وأن النظم السياسية التى تعتمد هذه الوسائل قد تنجح مرحلياً فى تحقيق أهدافها فى إدامة وجودها لفترة، لكنها لا تحل معضلتها الكبرى فى تمتين أوضاعها السياسية، وإقناع الجمهور فى الداخل والخارج بنجاحها وأهمية بقائها، وحماية نفسها من السقوط.
وعندما تسقط هذه الأنظمة فإنها لا تسقط وحدها للأسف، ولكنها تأخذ معها المنظومات الإعلامية التى جرّدتها من وظائفها الحيوية وأسباب وجودها، وتترك شعوبها لاحقاً فريسة لأدوات إعلامية وافدة أو عدائية، وهى أدوات تستثمر فى الخواء وأجواء انعدام الثقة التى تم بناؤها على مدى عقود من الانغلاق، وتنشط فى تنفيذ أجندات دعائية أخرى، فى حلقة جهنمية تأخذ الجمهور بعيداً عن حقه الأصيل فى التزود بمواد إعلامية تتحلى بقدر مناسب من الجودة والصدقية والكفاءة والبعد عن الاستخدام الدعائى.
من الإنصاف القول إن بعض أنماط الأداء الإعلامى المنفلتة تشكل تهديداً كبيراً للمصالح الوطنية والأمن القومى فى عديد الدول، لكن ضبط الأداء الإعلامى المنفلت وإلزامه بالقواعد المهنية لا يعنى أبداً إسكات صوته أو مصادرته أو تعقيمه.
يؤدى الإعلام دوراً جوهرياً فى صيانة المصالح القومية، ليس فقط من خلال أداء وظائفه الأساسية المتمثلة بالإخبار، والتعليم، والتثقيف، والترفيه، وغيرها، ولكن أيضاً عبر تحقيق الاندماج الوطنى، والإسهام فى عملية التنمية، وتعزيز المشاركة والمساءلة والممارسة الديمقراطية، والرقابة على السلطات العمومية.
وبموازاة هذا الدور الإيجابى لأى منظومة إعلامية وطنية، تبرز بعض الممارسات التى تخالف المعايير المهنية، والتى يمكن أن تُعرّض الأمن الوطنى والسلم الأهلى والتماسك الاجتماعى لمخاطر.
يتفق باحثون إعلاميون على أن هناك عدداً من الأخطاء الكبرى التى يمكن أن تقع فيها وسائل الإعلام فى أى منظومة إعلامية وطنية أو وافدة، وهى أخطاء تنجم عنها مخاطر شديدة، ويمكن تحديدها فى الممارسات التى تقود إلى الفتنة الطائفية، والتمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو الانتماء الجغرافى، والتحريض على العنف، والدعوة إلى الكراهية وتمجيد الحروب الهجومية، وانتهاك الخصوصية، والطعن فى الأعراض، والتغرير بالنشء، وازدراء الحقائق العلمية، وإشاعة مفاهيم الخرافة، والإضرار غير الموضوعى بالعلاقات الخارجية للدولة، أو نشر المعلومات المصنفة سرية ذات الصلة بالأمن الحربى.
لكن جهود الدولة لضبط الأداء الإعلامى وتطويق تداعيات الممارسات الخاطئة تبدو محل جدل كبير لا ينقطع، خصوصاً أن تلك الجهود تتقاطع مع مفاهيم راسخة فى مجالى حقوق الإنسان وحرية الإعلام من جهة، كما أن بعض الدول تستغل حالات الانفلات الإعلامى لفرض قيود على الممارسة الإعلامية من دون مبررات موضوعية من جهة أخرى.
ستظل القدرة على حماية الأمن القومى من دون تفريط فى الحريات وحقوق الإنسان، وبينها الحق فى المعرفة، وفى التعبير عن الرأى، مطلباً شديد الحيوية فى أى مجتمع رشيد.
ولأن جزءاً من السيادة الوطنية يتعلق بالسيادة على المجال الإعلامى، فقد ظهر اتفاق واضح بين كثير من الباحثين على أن الحكومة فى أى دولة ذات سيادة مطالبة بأن تتخذ الإجراءات اللازمة حيال وسائل الإعلام الداخلية والخارجية التى تستهدف الأمن القومى.
يظل هذا التدبير الحكومى جزءاً من مسئولية حماية أمن الدولة والمواطنين والخصوصية والكرامة الإنسانية والوحدة الوطنية والتماسك الأهلى والآداب وحقوق النشء والفئات المهمشة والضعيفة.
وتظل قدرة كل دولة على أن تمارس تلك المسئولية دون أن تجور على حرية الرأى والتعبير ضرورة.
تتزايد خطورة أنماط الأداء الحادة والضارة لوسائل الإعلام مع بروز دور الوافد الجديد المتمثل بوسائل التواصل الاجتماعى، التى تشير بعض الأدبيات البحثية إلى أنها أصبحت بمنزلة ساحة للصراعات ذات الطابع العنصرى أحياناً، وأداة للتثوير والتحريض على العنف فى أحيان أخرى، فضلاً عن استخدامها من قبَل جماعات متطرفة فى عمليات التجنيد والتعبئة.
يفيد أى تحليل دقيق لمحتوى معظم وسائل التواصل الاجتماعى فى أوقات الأزمات والاضطرابات وأعمال العنف أن تلك الوسائل تؤدى دوراً تأجيجياً فى بعض الأحيان، خصوصاً أن المستخدمين عادة ما يكونون فى مأمن من ملاحقة السلطات رغم ارتكابهم جرائم التحريض وإشاعة الكراهية.
تطرح هذه الممارسات واجبات كثيرة على سلطات ضبط الأداء الإعلامى ومتابعته فى أى بلد رشيد، ولدينا عديد التجارب الناجحة فى هذا الصدد.
تقوم الهيئات الضابطة فى الدول الغربية المتقدمة بأدوار مهمة فى متابعة الانفلاتات وأنماط الأداء الضارة، وكثيراً ما تتخذ إجراءات صارمة ضدها، لكن تلك الهيئات تظل حريصة على إدامة مفاهيم أساسية يجب أن تؤطر أى جهود للضبط، وعلى رأسها: حماية حرية الرأى والتعبير، وحرية الصدور، والتنوع والتعدد، والحق فى مساءلة السلطات وانتقادها، طالما أن هذا يتم تحت سقف الدستور، ولا يخرق قانوناً نافذاً.
ما نحتاجه فى مصر هو هيئة ضابطة تدرك هذا الدور وتحرص عليه، ولا تختزل عملها فى تكريس الحس الدعائى لوسائل الإعلام.