يبدو أن الانسياق وراء الطابع الحسى السائد فى هذه الدنيا، والتأثر بالفخامة والأبهة والقوة والاقتداء، قاسمٌ مشترك بين البشر بعامة، ومع ذلك فإن الإسلام بمنظومة أحكامه، وسير الصالحين بمر الزمان، قد طبع الإعجاب بهذه النماذج الفذة الفريدة فى نفوسنا، وما زلنا نسمع فى أعماقنا كما يقول أستاذنا محمد عبدالله محمد فى معالم التقريب أصوات آبائنا الأولين، وما زالت نفوسنا تؤثر نماذجهم الفريدة الغالية الزاخرة بالقوة المترفعة فى فقرها، المتعالية على المال والمادة أو الزاهدة فيهما وفى السلطان المستند إليهما أو المستمد منهما.
قد نصفق ونعجب بالفخم كما صفق السابقون، وننبهر بعزه وأبهته، ولكن قلوبنا لا تزال تخفق كما خفقت قلوب آبائنا، وما عساها تخفق قلوب أبنائنا من بعدنا إعزازاً وإجلالاً لرجل عظيم سامق العظمة عالى القامة والمهابة.. لم يخجل من الفقر، ولم يخشه حين ولى أمور الناس، فحمل فقره معه وحوله، سواءً فى حياته الخاصة أو فى حياته العامة، وجابه به الدنيا بأسرها فى وقار لا صلف ولا عقدة فيه، وفى طمأنينة خالية من الادعاء، وعفة خاشعة مجردة من الاستعراض، ومجردة من الزهو بما كان له من هيبة الصدق فى العبودية لله والإخلاص والشجاعة فى الولاء له سبحانه وتعالى وللمسلمين الذين وكلوا إليه أمورهم فحمل عنهم همومهم، ولم يبحث عن استيلاد الهيبة من الفخامة أو الأبهة اللتين أغرق وأمعن فيهما كثيرون، ولم يبح لنفسه أن يتقاضى على مهمته العظمى التى نذر لها حياته ونهاره وليله إلاّ النزر القليل، فى الوقت الذى أعطى فيه للناس ما ميزهم به على أهل بيته، فلم تكن حياته ولا حياة أولاده وأزواجه وذريته بأعز عنده مـن حيوات الناس، بل كان يعطى لهؤلاء ما لا يعطيه لأهله.
سهر لتنام الرعية، وشقى لترتاح، وراعت صورته صاحب كسرى حين رآه مشتملاً ببردة كاد العهد يبليها، بينما عهده بملوك الفرس أن لها سوراً من الأحراس تحميها.. فوق الثرى، رآه تحت ظل شجرة متدثراً بهذه البردة البالية، فقال فيما نظمه حافظ إبراهيم شاعر النيل:
وراعَ صاحـِبَ كسرى أن رأى عمـراً
بين الرعــيةِ عُــــطْــلا وهو راعيها
وعهدهُ بملـوكِ الفُرسِ أنَّ لها
سوراً من الجندِ والأحراسِ تحميها
فوق الثرى تحت ظلِ الدَّوحِ مُشْتَمِلاً
بِبُردَةٍ كـاد طولُ العهدِ يُبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً
وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمِنـت لمَّا أقمــت العدلَ بيـنَـهُمُ
فنمت نومَ قـريرِ العــينِ هانيها
عن الفاروق أتحدث
عن الفاروق عمر بن الخطاب أحدثكم. هذا الصحابى الجليل الذى لم تغيره إمارة المسلمين وخلافة خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، هان فى فمه مذاق السلطة، وفهم أنها واجب ومسئولية، لا صدارة ولا جاه ولا وجاهة ولا أبهة ولا ركوب على رقاب الناس. تستوقفه سيدة بسيطة وهو أمير المؤمنين، ويطول بينهما الحديث فيقف لها ولا يستعجلها، ولا يضيق بها صدره، فلما سأله رفقاؤه كيف أعطاها وأنصت لها كل هذا الوقت، راجعهم متعجباً كيف لا يتوقف وينصت إليها وهى التى سمع الله حوارها لرسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سموات، وأنزل سبحانه فى شأنها سورة المجادلة التى سميت بها وبمجادلتها ودفاعها عن بيتها وأسرتها؛ يقول جل وعلا فى بداية السورة: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» (المجادلة 1)، وأتمت السورة أحكام الظهار فيمن يظاهرون من نسائهم ويرغبون فى الرجوع عما تعجلوه وفرط منهم فى لحظة غضب أو استخفاف.
اشتراه الناس لأنفسهم يوم بايعوه بالخلافة وإمارة المسلمين، وتملكوه حين ملّكوه عليهم، فعاش حياته فى خدمتهم، ولم يميز نفسه ولا آله بشىء، ولم يرتكب ما يحتمى من الناس بسببه، أو يحتاط لأجله منهم، فقتله بعض الناس وهو أفضل الناس لكى يوهب من ربه فرصة الموت من أجلهم فيموت شهيداً لتتم آية الله فيه.
حدود المال فى الإسلام
على أن المال لم يقتصر اتصاله بالدين على بذل القُرُبات، أو فى استخدامه للتعبير عن التدين والعواطف الدينية، وإنما بقـى للمال مع زهد هؤلاء الزاهدين الكرام اتصال وثيق فى شأن توفير الخدمات الدينية.
ولم يكن ذلك هو تكليف الإسلام فى أول عهده، فلم يُحَمِّل الجماعة الإنسانية نفقات خدمة دينية متخصصة، بل كان مُعْرضاً عن ذلك، ولم يعرف ولم يقر كهانة، ورفض كل صور الوصاية على علاقة العبد بربه، ولم يجعل الكهانة وساطة بين الإنسان وبين خالقه، وإنما أحال الناس فقط إلى أهل الذكر فيما لا يعلمون؛ فقال تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (النحل 43).
والملحوظ أن الإسلام منذ أول عهده قد حرص على جعل العلم هو فرض الكفاية على المسلم، وندب كل مسلم حاز قدراً كافياً من العلم بأحكام الدين للقيام بالخدمات الدينية العاديـة لنفسه، ولمن يحتاجون إلى معونته من أهله وعشيرته وإخوانه، بذلك صار كل مسلم حاز علماً من أهل الذكر وإن لم يكن مـن أهل الكهانة، وصار عدد هؤلاء العلماء أضعاف عددهم فى الملل الأخرى، فكاد عددهم يتساوى مع عدد البالغين من المسلمين الذين كانوا جميعاً مجندين للدعوة والخدمة، ذلك لأن دين المسلم اتصال مباشر بلا واسطة بينه وبين الله، ولا تجوز فيه الإنابة إلاَّ فى أحوال مستثناة للضرورة، كالحج عن المريض العاجز.
ومع ذلك فإن اتساع رقعة بلاد الإسلام وعدد المسلمين، وتباين اللغات والعادات والظروف، وصوارف الحياة، أدى إلى ظهور التخصص والتفرغ فى الخدمة الدينية، لا بدافع أو كستار للكهانة، وإنما للقيام بوظيفة أهل الذكر الذين يلجأ إليهم من لا يعلمون من دينهم ليتعلموا منهم ما يودون معرفته.
وشيئاً فشيئاً نمت هذه التخصصات والفروع، وأنشئت دور العلم والفقه، وأوقفت الأوقاف للاتفاق عليها، وأجريت الأرزاق لطلاب العلم وللقائمين عليه، وصار للمال وظيفة ملحوظة فى توفير الخدمات الدينية.
على أن الإسلام لم يسمح قط بتفوق أو تصدر أو تسلط المال والمادية بعامة، ولا سمح بأن يطردا المثالية من الأرض، فهى قوة حيوية أقوى منهما سبباً، تبقى حتى وإن ذوت كامنة فى البذور، باعثة لآمال الناس، ومنها تنهمر أمطار الفضل والرحمة من لدن الرحيم الكريم الجواد، فعادت هذه السنابل فنبتت ونمت وأينعت وأزهرت وأثمرت، حتى ملأت الأنفس بالنماء والرجاء.