يبدو أنه منذ بداية المجتمعات الإنسانية لم يكف الإنسان عن توجيه النقد أو اللوم أو العتاب أو العقاب إلى غيره على وجه من الوجوه. يدفعه، فى الوعى أو اللاوعى، إحساسه بذاته وصرف الأنظار عن أى مساس بذاته، ولمن هم فى حكم ذاته، وإلقاء المسئولية والتبعة على سواه، ودون أى مراجعة حقيقية صادقة للذات، ومن ثم بقى هذا النقد الموجّه فى اتجاه واحد، لا يتغير ولا ينقطع، قليل الجدوى فى إصلاح أحوال هذه أو تلك من الجماعات الإنسانية.
هذا الداء داء قديم، له أصداء شتى، منها قعود الفرد عن فهم ذاته، ولم تفلح دعوة الفلاسفة التى نادت الإنسان: «اعرف نفسك»، وتوالت الحقب والحال على ذات الحال، حيث حلت المكابرة والعناد محل الفهم والرؤية، والمجادلة الضريرة محل الحوار البصير.. ولولا هذه الآفة لكان انجراف البشرية إلى الضلال أقل، واستعدادها لاستقبال الرسالات والنبوّات الصادقة بقدر أكبر من محاولة الفهم، بدلاً من الصد والإمعان فى العناد الذى يورث الكفر.
نعم؛ كان هذا العناد هو الذى أورث الكفر فى تاريخ البشرية الطويل، ففى التاريخ القديم الموغل فى القدم، كان العناد هو القاسم المشترك فى تمسك الأقدمين بما هم عليه من ضلال وكفر، بلا حجة أو ذريعة سوى أنهم على ذلك قد وجدوا آباءهم وأسلافهم الأولين!
كان هذا «العناد» المدخل لإغلاق العقول وإيصادها بالضبة والمفتاح أمام دعوات الرسل والأنبياء. وحينما يوصد الإنسان عقله فإنه يتسلح تلقائياً بالعناد والمكابرة، وبذلك اشتهرت فرقة من السفسطائية سُميت «العنادية».. ينكر أفرادها حقائق الأشياء، ويزعمون أنها وَهْمٌ وخيال باطل.
يعرف دعاة الإصلاح، وعلماء النفس والاجتماع، والمتأملون فى أحوال الإنسان، أن «شرنقة العادة» أو الاعتياد، هى الحليف لآفة العناد، وهى الجدار الذى تتكسر عنده كافة محاولات الهداية أو الإصلاح أو الترقى أو التغيير أو التطوير.
سلطان هذا «الحلف» الضرير وراء انتشار الجهل والضلال، ووراء كل حماقات البشر، وما تردّوا فيه من فظائع ومعارك وأزمات، وفتن وكوارث ونكبات وحروب. وتكرار هذا الإذعان لسلطان ذلك «الحلف» وراء صلابة المتصلب، وجمود المتجمد، وقسوة القاسى، ونكران المنكر، وقبح القبيح، وجشع الجشع، وخطورة الخطر، وخيانة الخائن، وحقد الحاقد، وإجرام المجرم، وتهور المتهور، واندفاع المندفع، ورعونة الأرعن، وضراوة الضارى، وحمق الأحمق، وقفر المقفر، وإجداب المجدب. فمع تكرار هذا الانصياع والإذعان واعتياده يتجذّر ويقوى ويتمكن ويشتد، فى اللاوعى وفى الوعى، وينزرع فى النسيج والطبع، وإلى ذلك ترجع الشرور والآثام التى تذوى وتنحدر بها أحوال الجماعات مع مرور الزمن!!
ومن الملحوظ أن تجذُّر هذا كله نابعٌ من الذات، يكرس ذلك انصراف الذات عن مراجعة النفس، واتجاهها دائماً إلى نقد سواها، وإلقاء المسئولية والتبعة عليه فى جميع الأحوال!
علّة هذه العلّة المتجذرة أن الفرد يخشى أن يتعرى أمام نفسه أو فى عيون الناس، مخافة أن يفقد احترامه لذاته وأن تسقط قيمته ومهابته فى نظر المجتمع.
وقد يدفعه إلى ذلك خوفه على ضياع ما اغتنمه أو ما يأمل فى اغتنامه، الأمر الذى يهدده نقد الذات الذى يفتح المجال لنقد الغير له.
وقد يساهم فى هذه وتلك اعتقاد البعض أن حياة العاقل ما هى إلا مهارة وشطارة، بعيدة عن القيم التى ما هى إلا سذاجة وغفلة!
وهذا يأس نهائى من إنسانية الإنسان ومستقبل البشرية! ما دام أكثر الناس هم أكثرهم حباً لأنفسهم وامتثالاً لرغابها وأطماعها، وأقل الناس هم أكثرهم إيثاراً وتعلقاً بالخير لغيرهم وهم معهم.. ما دام هذا هو حال الناس فإنه يستحيل على النفع العام أياً كان أن يكون إلا معلولاً معرضاً دائماً لأنانيات البشر.. تناوشه وتحتال عليه وتنشب فيه أظفارها كلما تهيأ ذلك لها.. إن ماضى الآدميين لا يشجع أحياءهم على حب الخير بإخلاص، ولا على الغيرية ولا العناية بالجار والالتفات لقريب وذى رحم.. فلم يتعود الآدميون على ذلك التراحم بصفة عامة فى أى عصر من العصور، وإنما خفت الأنانية أو الغلظة فى أوقات الرخاء، واشتدت فى الشدة، وصار الخير والبِرّ والتراحم فاكهة جميلة نادرة فى أيدى الناس يرجونها ولا يصلون إليها إلا نادراً.. لأن حياتهم الفعلية، لا الكلامية والوعظية، لا تعينهم على تداول الجميع لهذه الخصال أو الفواكه الجميلة النادرة.
ومن المؤسف أن يغلب على الناس الغيظ والتشاؤم والقلق والحقد وسوء الظن وضيق الصدر، مع عدم القدرة على الالتزام بالاتفاقات أو المبالاة بالتعهدات!
وقد جرى البشر على بدء كل شىء من البدايات اتجاهاً إلى النهايات، ولم يتصوروا قط أن يكون البدء من النهايات انحداراً منها إلى البدايات ثم الانقلاب إلى العكس. لم يتصور البشر هذا التبادل المطرد مما حسبوه بداية إلى نهاية أخيرة، برغم أن النهاية قد يعقبها عودة إلى بداية.. يحدث هذا دواليك فى هذا الكون العظيم، حيث يسقط فيه دائماً معنى الزمان والمكان الذى يتشبث به الآدميون الفانون؛ الذين لم يفهموا بعد معنى الأبدية والألوهية، كما لم يفهموا حقيقة دنياهم!
الجهل لا يفارق الأحياء فى هزل أو جد.. ولولا الجهل ما عاش الأحياء على الأرض حتى الآن.. ولا غرو فإن كل حى، كبر أو ضؤل، يبدأ حياته من جهل شامل مطبق يتحسس طريقه ليتعرف على استعداداته فيها تدريجياً.. يستمر حياً إلى النهاية المكتوبة له.. واستعداداتنا أكثر مما لدى غيرنا من باقى ما نعرفه من الأحياء الأخرى.. فنحن، برغم طفولتنا العارية البكماء، أوسع حيلة وأقوى إدراكاً وذكاءً وأشد تعقيداً فى الاختيارات والإرادات والملاذّ والشهوات، وأبعد نظراً فيما نحب ونكره ونريد ونرفض ونبنى ونهدم ونصدق ونكذب، وأفسح مجالاً ونطاقاً فى التصور والتطلع والأحلام والآمال وفى عكسها.. معنا ماضٍ وحاضر ومستقبل، ومعنا أيضاً مدى لأعمار واحتمالات لحظوظ لا حد لحسنها أو سوئها ربما بقيت امتداداتها وآثارها بعد زوال صاحبها!
فأياً كان رصيد الآدمى من علم أو طبقة أو سن أو قوة بدنية أو عقلية أو ميل جارف أو متزن، فإن رصيده من هذا أو ذاك فيه جانب ضخم من الأوهام والمعتقدات والنيات والمقربات والطاردات والتعلق الذى لا يهدأ والأرواح والشياطين والقراءات والأدعية والكتابات والزيارات والنذور والأماكن والبقاع المباركة فى محيطه وفى تصوره أو المؤثرة المجدية عنده لأغراضه.
وحين يفيق الآدمى، إذا أفاق، إلى كمية هذا الركام الجاهل وإلى آثاره فى الصغير والكبير وغير المتعلم والمتعلم، تهوله صلابة ومرونة الحياة التى زُوّد بها الأحياء بلا تفريق، كما يهوله بقاء البشر حتى الآن بأنواعهم وألوانهم، يتبدلون ويتغيرون دون تمنع أو اعتراض. الكل يختلف ويأتلف باستمرار، حضراً وريفاً، غنى وفقراً، قوة وضعفاً، ذكورة وأنوثة، تحضراً وتأخراً!
هذا حال الحياة!