القاسم المشترك فى كل العبادات والشعائر الدينية هو تربية النفس وعمارة الأرض، حتى إنه يمكننا القول إن معظم الشعائر وسيلة وليست غاية فى حد ذاتها، ومقصدها الأسمى تربية النفس وحسن الخلق، ففى الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام تراه يتضمن التزامات وأفعال تؤدى بمجموعها إلى تربية الذات تربية سليمة ودقيقة وفعالة، لأنه يمثل تجرداً عن المادة، وارتفاعاً نحو مدارج الكمال الروحى، والسمو النفسى، ولذلك للحج أثر قوى فى تطهير النفس من ذمائم الأخلاق، كالغرور والتكبر والزهو والعجب، وهو ما عبر عنه الإمام على بقوله: «جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته»، وهذا المعنى تراه صريحاً ورموزاً فى مواضع متعددة، فقد أكد الرسول الكريم فى خطبة الوداع على هذا المعنى فقال: (لا فرق بين عربى ولا أعجمى ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى)، وهذا خطاب موجَّه إلى الناس عامة، فيه إشارة إلى خبر وحقيقة قد يسهو ويغفل عنها الكثير، فلا مجال فى الإسلام للعصبيات العائلية الجاهلية العفنة، ولا مجال فى الإسلام المال والمظهر والجنس والنوع واللون.
ورمز إلى معنى التواضع عند تقبيل الحجر الأسود الذى هو من جنس الجمادات، حتى تكتمل المنظومة الإلهية المعجزة، أدبٌ مع الجمادات حيث تقبيل الحجر الأسود، أدبٌ مع النباتات حيث نُهى عن قطع الأشجار فى الحرم، أدبٌ مع الحيوان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)، أدبٌ مع الإنسان (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ).
وهناك على عرفات الله مشهد آخر جليل من ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات، لبيك اللهم لبيك.. الموقف شريف، والرحمة تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب العزيزة من عباد اجتمعت هممهم، وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين على طلب الرحمة والفضل من الله.
كما أن الحاج يخرج من الملذات الجسمية ليمتلئ بالملذات الروحية، فعند الإحرام يحرم جسده من اللباس الراقى، ليلبس لباساً بسيطاً، ويُحرم عليه العطور بجميع أنواعها، وممارسة الشهوات المباحة، وقطع شجر، والصيد البرى، وكل ذلك يكشف لك أن لكل منسك وعمل فى الحج أثره فى تكميل النفس الإنسانية، وفى التحليق بالإنسان نحو مدارج العرفان والسمو الروحى، وحين يعيش هذه المعانى بقلبه يكون إذن محل نظر الله، ومجاب الدعاء.
وعند الطواف بالبيت عليه ألا يعتقد أنها حجارة تطوف حولها أجساد، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت، حتى لا تبتدئ الذكر إلا منه ولا تختم إلا به، فالطائفون متشبّهون بالملائكة المقربين الحافِّين حول العرش، إنه استحضار لعظمة البيت فى القلب كأنك تشاهد رب البيت لشدة تعظيمه إياه، وتشكره لأنه ألحقك بزمرة الوافدين عليه، آملين أن ينصبوا فى القيامة إلى جهة الجنة فيدخلوها هم و(مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).
ولو فهم الحاج ما فى البيت من أسرار وما فى زيارة رسول الله من أنوار لخرج من هناك وقد امتلأ قلبه بالتواضع والرحمة والكرم والإيثار، وحفظ البيئة، وحقوق الأكوان، ومحبة العمران والمؤسسات لا تخريبها، واحترام الإنسان لا سفك دمائه، والانفتاح على العالم لا الاصطدام معه، فالبيت بيت المسلمين، لكن قيم البيت ومُثُلَه ومقاصده وأخلاقياته تتسع للمسلم، والمسيحى، والبوذى، وسائر الملل والنحل، لا يشعر أحد فى شئون المعاملة أنه مكرَه ولا مكروه ولا منبوذ، لأن الحج رمزية للإسلام بكل اتساعه وشموله وسماحته.