تعيش قطر وقيادتها السياسية أياماً عصيبة، ملامح العزلة الخليجية وبعض من العربية تتزايد رويداً رويداً، القدرة على المقاومة والمناطحة للنفوذ السعودى خليجياً وعربياً آخذة فى الانحسار، السخافات والمؤامرات بحق مصر وشعبها وثورتها لم تعد تؤثر فى صلابة المعدن المصرى، التأثير الإعلامى «الجزيرى» فقد بريقه مصرياً وعربياً، التأثير الإعلامى المصرى والسعودى يبدو طاغياً ومسموعاً. والأمير الشاب ليس لديه مخرج سوى تغيير المسار القطرى، وإن لم يفعل فالثمن غالٍ، إنه الأفول المنتظر بل المقبل بقوة.
ما تعارفنا عليه بالظاهرة القطرية القادرة على قيادة التغيير فى المنطقة العربية، باتت هى نفسها حالة تغير، وإن بسمات وشروط خاصة. كل التحريض للشعوب العربية للثورة ضد حكامها، الذى مارسته الجزيرة باندفاع، ومولته الخزانة القطرية بسخاء، تحول الآن إلى عبء كبير. لن يغفر أحد للجزيرة ولا لحكام قطر ما يفعلونه الآن من ترويج للإرهاب والعنف الإخوانى باسم الحفاظ على الثورة ومكتسباتها أو باسم الدفاع عن الشرعية أو باسم المعارضة السعودية. لقد بانت الوجوه وتجلت السمات، وأصبح الخفى ظاهراً والسر معروفاً.
فقطر التى ادعت، أو ربما اقتنعت، أن لها دوراً حاسماً فى إعادة هيكلة المجتمعات العربية، وفعلت كل ما يمكن فعله من دعاية واستخبارات وتمويل واستقطاب لرموز فكرية وثقافية عربية، والالتزام بالأهداف الأمريكية فعلاً وقولاً، والمشاركة فى أعمال عسكرية مباشرة ضد العراق تارة، وليبيا القذافى تارة أخرى، وسوريا الأسد تارة ثالثة، لم تعد الآن قادرة إلا على التآمر والخداع والوكالة للرجل الكبير القابع فى قلب واشنطن. ولفترة طويلة لم تدرك القيادة القطرية، خاصة الراهنة، أنها مجرد امتداد للراعى الأمريكى، الذى يمد مظلة الحماية لقطر وأمثالها من العملاء، استناداً إلى التزامهم الراسخ بتنفيذ الأجندات الأمريكية، أياً كان انتماء الرئيس الأمريكى، جمهورياً أو ديمقراطياً. وهنا تبدو عبقرية لا يمكن إنكارها، فالمهم أن تلعب الدوحة الدور المرسوم بدقة وأناة حتى يظل الراعى راعياً. ومهما كانت الانتقادات العربية والمطالبات الخليجية، فالمهم لدى الدوحة أن تلعب دورها المرسوم أمريكياً بكل الإخلاص، وعلى العرب والخليجيين أن يتقبلوا الوضع كما هو.
فى مناسبة فكرية جرت فى الدوحة قبل ثلاثة أعوام، وبعد انطلاق الثورات العربية بقليل، التقيت بأحد المفكرين العرب الذين يعيشون فى قطر منذ عدة سنوات. لم يكن الرجل غاضباً ولم يكن أيضاً راضياً. ولكنه أكد فى لقاءات محدودة أن تعايشه وتداخله مع قيادات قطر أظهر له أن حكام الدوحة لديهم حلم كبير فى قيادة الأمة العربية، أو هذه على الأقل قناعة الأمير آنذاك حمد بن خليفة آل ثانى، ورئيس وزرائه حمد بن جاسم، ولكنه الحلم الذى هو بمثابة الوهم، والكثيرون يعيشون مع الوهم لفترة طالت أم قصرت، ولكنهم حتماً سيواجهون الواقع وحقائقه الدامغة، وأبرزها أن الأموال مهما كثرت فهى وحدها لا تصنع دوراً، وأن قطر تفتقد إلى عبقرية الموقع الجغرافى، وأن لا دور إقليمياً لدولة بلا شعب، أو بالكاد لديها بعض من شعب، ومحاطون بغالبية ساحقة من الوافدين الساعين إلى الرزق ولا يهمهم بعد ذلك أى شىء آخر. وأهم ما فى هذا الحلم / الوهم أنه نوع من المشاكسة السياسية الثقيلة للأخ الخليجى الأكبر، الذى سيظل يمثل لقطر مصدر إزعاج شديد يعكس فى جانب منه التقاليد القبلية فى المنافسة والصراع، وفى جانب آخر التنافس على الرضاء الأمريكى. ولذا فلن يدوم طويلاً، ولا بد أن تأتى اللحظة التى يعود فيها الدور القطرى إلى حجمه الطبيعى خليجياً وعربياً وإقليمياً.
جزء آخر من الحلم / الوهم القطرى تمثل فى مناطحة مصر، خاصة فى السنوات الأخيرة العجاف من حكم مبارك، التى بدت فيها القاهرة متراجعة عن دورها التاريخى وعن قدرها المحتوم. تصورت الدوحة أن انكفاء مصر على ذاتها هو إشارة، بل ربما أمر التاريخ بأن تتقدم هى لملء الفراغ. تناست قطر أن الدور الفاعل إقليمياً مرهون بالبشر وبالتاريخ والعمق الثقافى والقدرة على صنع نموذج يلقى بتأثيراته على كل من حوله، وتناست أيضاً أن مصر طوال تاريخها واجهت محاولات الاستبعاد والحصار بكل أشكاله، ولكنها لم تفقد القدرة على التأثير وصنع النموذج القادر مهما كانت مثالبه على الانتشار بفعل ريادة طبيعية وليست مفبركة. تناست قطر أيضاً أن الأموال يمكن أن تشترى قدرات دعائية عظيمة ونفوساً بشرية ضعيفة ولكنها لا تصنع سوى مجد زائف وعابر.
لحظة الحقيقة بدأت بشائرها بالفعل، فالدولة الكبرى عربياً وشقيقتها الكبرى خليجياً وعربياً أيضاً، وبرفقتهما دولتا الإمارات والبحرين، قرروا وضع الأمور فى نصابها الصحيح. قرروا التنبيه بأن التجاوزات القطرية وصلت إلى مدى لا يقبل التسامح، وأنه لا بديل سوى التراجع عن التحركات الخطيرة بحق الأمن القومى العربى، وبحق أمن الشعوب العربية. الطريق أمام قطر واضح وضوح الشمس، إما العودة إلى المنطق والحكمة ومراعاة حقوق الجيرة وحقوق العروبة وحقوق التعاون المشترك، وإما العزلة المتدرجة وصولاً إلى النبذ والاحتقار.
لم تعرف قطر من قبل أن لكل شىء ثمناً، وتجاهلت الرسائل المصرية والسعودية طويلاً، وتصورت أن صبر القاهرة والرياض يعنى قلة الحيلة وفقدان التأثير. هذا التجاهل لرسائل الأشقاء الكبار، الذى بدا للحظة معبراً عن الكبرياء والاستعلاء، تحول إلى تخبط وفقدان التركيز مصحوباً بالبحث عن مخارج للأزمة، وهنا تجىء التحركات القطرية لتجسد الحجم الحقيقى للدوحة فى فضاء السياسات العربية الراهنة والمحملة بأعلى درجة من السيولة السياسية. فمن ناحية تدعو والدة الأمير إلى دور للمثقفين المصريين والقطريين لاحتواء الأزمة وعدم السماح بتفجير العلاقات الشعبية بين البلدين، متناسية فى ذلك أن تعلن صراحة طلب الغفران من الشعب المصرى الذى يتحمل فوق الطاقة من مؤامرات الدوحة وأخواتها. ومن ناحية أخرى تطلب الدوحة من عمان الوساطة مع دول المجلس الخليجى وترسل للكويت تمنيات بأن تعيد الكرة مرة أخرى مع الرياض والقاهرة قبل القمة العربية المقبلة فى الكويت ذاتها لكى يقبلان التصالح، ولكن دون أن تأخذ خطوات فعلية تعبر فيها عن بداية عودة الوعى. تسعى قطر وأميرها الشاب لأن تلعب لعبة استهلاك الوقت، والقفز إلى الأمام دون أى خطوة فعلية تعبر عن الندم وعن التخلص من عناصر الفتنة الإخوانية التى تعيث فساداً فى الأرض بالأموال القطرية وجوازات السفر الدبلوماسية والأسلحة والمخططات الدعائية الدنيئة والكاذبة. لكنها اللعبة الخاسرة والمدمرة أيضاً.