تروى سورة الأعراف مجمل ما كان بين شعيب عليه السلام وقومه، فتقول: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ» (الأعراف 85 - 93)!!
لم يُجْد ولم ينفع مع هؤلاء خطاب العقل ولا نداء الضمير، ولا بلاغة شعيب، الذى قال بعض السلف إنه كان خطيب الأنبياء، وإن المصطفى «صلى الله عليه وسلم» كان يقول عنه إذا ذكر أمامه: «ذاك خطيب الأنبياء».. لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته فى دعوته قومه إلى الإيمان برب العالمين.. بيد أن كل ذلك لم يُجْد مع قومه، ولم يُفْلح فى زحزحتهم عن ضلالهم الذى تشبثوا به عناداً ومكابرة.. وهما آفة الآفات التى تصيب الإنسان فتفقده القدرة على استلهام بل ورؤية الصواب!!! حتى قالوا لشعيب عليه السلام: «قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ» (هود 91).
هذا العناد هو الذى رأينا عليه قوم إبراهيم الخليل عليه السلام، وما سلف من أقوام غلبهم الكفر والعناد فرفضوا ما أتاهم من الرسالات والنبوات. وقد جاء بالقرآن فى شأن من أهلكوا من الأمم بعامة جزاء كفرهم وعنادهم وصدهم عن سبيل الله: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون» (القصص 43).. وجاء فى سورة الفرقان: «وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً * وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيراً» (الفرقان 38 - 39).. وقيل إن أصحاب الرس كانوا قبل عاد قوم هود بكثير، وقال البعض إنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا فى سورة البروج، وقيل إنهم أهل قرية من قرى ثمود: قوم صالح، فكذبوا النبى الذى أرسل إليهم وقتلوه، فكان ما نزل بهم من عقاب وهلكة جزاء هذا الصد والعناد الذى أوردهم موارد التهلكة!!
ومن أبلغ القصص فى الإمعان فى العناد الذى يورث الكفر، عناد قوم يس.. وهم أصحاب القرية التى ورد نبأها فى سورة يس (الآيات 13 - 29).. والتى أرسل إليها الله تعالى اثنين من المرسلين، فكذبوهما عناداً وكفراً فعزز الله تعالى بثالث، ولكن أصحاب القرية أبوا إلاَّ العناد والنكير، وتكذيب ما جاءهم به هؤلاء الرسل من حجج وبينات، واحتجوا بأنهم تشاءموا منهم، واشتطوا فهددوهم وتوعدوهم بالرجم بالحجارة وبالعذاب الأليم إن لم يكفوا عن دعوتهم. وإذ هم فى سجالهم الضرير وصم آذانهم عن دعوة المرسلين وتهديدهم، جاء من أقصى المدينة رجل يسعى حين علم بأنهم هموا بتعذيب الرسل وقتلهم، فدعاهم إلى اتباعهم فهم مرسلون من ربهم لا يسألونهم أجراً ولا نفعاً، وطفق يبين لهم حججه وبراهينه، وخطأ ما هم فيه من ضلال، فأبوا إلاَّ الإمعان فى العناد والكفر، ووثبوا إليه وقتلوه، فأدخله الله الجنة، أما هؤلاء المعاندون، فقد نزل بهم أمر الله وعقابه، فما هى إلاَّ أن هلكوا بصيحة واحدة جاءتهم مهلكة من السماء، فإذا هم ميتون خامدون كما تخمد النار، يتصايحون بالحسرات ويندمون حيث لم يعد ينفع الندم.. «إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ» (يس 29 - 31).
على عكس هذا الإمعان فى العناد، كان قوم يونس عليه السلام، فاهتدوا إلى سواء السبيل حين أقلعوا عن العناد وتمعنوا فيما جاءهم به وتابوا عما كانوا فيه من ضلالة.. فتقول الآيات من سورة يونس: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (يونس 96 - 98).. فتنبئ الآيات بأن الناس جبلت على الإنكار والعناد، وأن أكثرهم لا يؤمنون بحجج الله تعالى، ولا يقرون بوحدانيته، ولا يعملون بشرعه، برغم ما يأتيهم من الموعظة والعبرة، ولا يقلعون عن ذلك إلاَّ إذا رأوا العذاب وعاينوه، وأنه لم يفئ إلى الإيمان فى أوانه، وينتفع به، إلاَّ أهل قرية النبى يونس عليه السلام، فإنهم لما أيقنوا أن العذاب نازل بهم بعد ما فارقهم يونس مغاضباً، تابوا إلى الله توبة نصوحاً، فكشف الله تعالى عنهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا فمتعهم فيها سبحانه إلى حين. وتتابع الآيات فى خطابها إلى محمد عليه الصلاة والسلام فتقول له إن الله لو شاء لآمن من فى الأرض جميعاً، ولكنه تبارك وتعالى يتركهم لحكمة يراها ولا يدركها سواه، يقول عز من قائل: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» (يونس 99 - 100).
أما يونس عليه السلام، الذى ذهب مغاضباً دون أن يعرف أن قومه قد أقلعوا عما هم فيه وتابوا إلى ربهم، فقد شملته رحمة ربه، ونجاه سبحانه من الغم.. فجاء بسورة الأنبياء: «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِين» (الأنبياء 87 - 88).. وتروى سورة الصافات مجمل هذه القصة، فجاء بها: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (الصافات 139 - 148).
وفى تسرية ربانية، عن محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، تخاطبه الآيات الكريمة أن يصبر لحكم ربه تبارك وتعالى، وألا يسارع إلى الغضب كيونس صاحب الحوت الذى غلبه غضبه لعدم صبره على قومه، لولا أن تداركته نعمة ربه.. تقول الآيات: «أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (القلم 47 -50).