شبح الإغلاق يطارد مصنع الـ"إم دي إف" الوحيد في مصر
مخزن الشركة فارغ قبل الأزمة
صورتان ربما تلخصان ما آلت إليه الأوضاع فى مصنع نجع حمادى لأخشاب «الإم دى إف»، إحداهما تم التقاطها أوائل 2017 لمخزن الشركة الفسيح البالغة مساحته 3750 متراً مربعاً، وهو شبه خالٍ من الأخشاب بعد بيعها، والأخرى تم التقاطها لنفس المخزن قبل أيام وهو مكدس عن آخره وتمتلئ الشوارع المحيطة به عن آخرها تقريباً أيضاً بالأخشاب، بعد أن تفاقمت مشكلات إغراق السوق المحلية بالمنتج الأجنبى من «إم دى إف»، وارتفعت تكلفة المنتج المحلى بشكل غير مسبوق.
اليوم، توقفت ماكينات المصنع الوحيد من نوعه فى مصر، المقام فى مركز دشنا بمحافظة قنا، بعد أن عملت شهرين فقط هذا العام، وسط مخاوف من استمرار الأوضاع المتردية التى يمر بها، وأن تُسفر عن إغلاق المصنع الذى تم إنشاؤه ضمن خطط لتنمية المنطقة وتقليل معدلات الجريمة بها، بعد أن كان الأهالى يطلقون عليها فيما مضى لقب «خط النار».
وتعانى مصر من فقر واضح فى إنتاج الأخشاب بكافة أنواعها، ومن فجوة هائلة بين ما تُنتجه وما تستهلكه، وتغطيها بالاستيراد، وذلك بنحو 1.6 مليار دولار، طبقاً للأرقام الرسمية، ويؤكد قيادات فى الصناعة أن الواقع يتخطى هذا الرقم، نظراً لـ«تهرب بعض المستوردين من تسجيل القيم الحقيقية للأخشاب التى يستوردونها»، وفقاً لتصريحات سابقة لأحمد حلمى، رئيس غرفة صناعة الأخشاب باتحاد الصناعات، لـ«الوطن».
وبينما تستورد مصر نحو 450 ألف متر مكعب من أخشاب «إم دى إف» التى أصبحت تُستخدم على نطاق واسع الآن فى صناعة الأثاث، فضلاً عن الديكورات والأرضيات، فإن إنتاج مصنع نجع حمادى للإم دى إف، لم يكن يتجاوز الـ70 ألف متر مكعب سنوياً، رغم أن طاقته الإنتاجية القصوى 90 ألف متر مكعب سنوياً، وحتى هذه الكمية مهددة الآن بالتلاشى مع عدم قدرة المصنع على الاستمرار فى الإنتاج.
ووسط تلال أخشاب «الإم إف» المصنّعة التى كانت تفيض من مخازن المصنع للشوارع المحيطة بها، والمقدرة بـ21 ألف متر مكعب، فى ظل احتمالات لسقوط الأمطار عليها، أوضح المهندس مؤمن بركات، مدير الإنتاج بالمصنع، أن «الأخشاب الموجودة بالشوارع لم تتم صنفرتها، وهو ما يحافظ عليها من الأمطار والعوامل الطبيعية، حتى تصريفها».
ومن خلف هذه الأخشاب المُصنّعة كانت هناك تلال كبيرة تشغل ثلث مساحة المصنع، تضم المادة الخام المكوّنة من «مصاص القصب» أو ما يُعرف باسم «الباجاس» التى يستخدمها المصنع بشكل أساسى حتى اليوم، ويتم شراؤها بأسعار مرتفعة من مصنع سكر دشنا المجاور، وتبلغ كميتها، حسب المهندس «بركات»، نحو 30 ألف طن، ويتم رش المياه عليها دورياً، للحفاظ عليها رطبة منعاً لتعرضها للاحتراق لأى سبب.
ويقول «بركات»: «الأفضل فى ظل هذه الظروف تخزين المصاص بهذه الوضعية، لأن إنتاجه يتطلب غراء ومواد كيماوية يتم استخدامها فى التشغيل، ولما حسبناها لقينا إننا لو اشتغلنا هتقف علينا بخسارة، لأن التشغيل عايز مواد خام وفلوس، والفلوس مش هتيجى إلا لما نبيع، واحنا مفيش بيع عندنا، فأفضل حاجة إننا نخزّن الباجاس وننتظر انفراجة، وهو ما لم يحدث للأسف». ويوضح «بركات» أنه «فيما مضى كان يجرى تخزين نحو 60 أو 70 ألف متر باجاس جاف، وإنتاجهم بالكامل، وتصريف المنتج من الأخشاب بالكامل فى نفس العام، لكن نظراً للظروف الراهنة، إحنا ما اشتغلناش السنة دى غير شهرين، وهو الأمر الذى لم يحدث فى تاريخ الشركة كله، منذ بدايتها فى 2001، إلا هذا العام».
«حتى فى 2010 و2011 و2012 و2013 كنا بنبيع، ودى أحسن سنين بعنا فيها، لأن ما كانش فيه خشب جاى من بره، وكان الاستيراد ممنوع شوية، أو كان الخشب المستورد غالى، لكن مشكلتنا حالياً إن الخشب اللى جاى من بره أرخص من الخشب بتاعنا، وبالنسبة للتاجر أو المستهلك لو السعر أقل 50 جنيه فى اللوح هيقول أنا أولى بيها، وإحنا تكلفتنا زايدة بسبب أسعار المصاص والغاز والكهرباء، فكل دى حاجات بتضيف على السعر، والسعر ده السوق مش متقبله».
أما عن الفرق بين جودة المنتج المحلى والمستورد، فيعتبر مدير الإنتاج أنها «نفس جودة اللى بره، إن لم تكن أحسن، لا سيما مقارنة بكثير من خشب كتير صينى بيدخل مصر، ويتم إجراء اختبارات ظاهرية وميكانيكية عليه توضح أن المحلى أفضل فى قوة الصلابة ضد الكسر وما يُعرف باسم الترابط الداخلى، بينما يهتم الخشب المستورد بلمعان لوح الخشب على حساب الصلابة، واحنا ممكن نعمل ده، لكن إحنا عارفين إنه هيضعف الخشب».
مدير الإنتاج: توقفنا عن العمل لارتفاع التكلفة وانخفاض سعر الخشب المستورد.. ولدينا 21 ألف متر مكعب مكدسة فى المخازن لا تجد من يشتريها
رغم توقف المصنع، حاول مدير الإنتاج استعراض مراحل الصناعة، بداية من مرحلة تغذية الماكينات بمصاص القصب، ونقله عن طريق اللوادر إلى أحد الخطوط لتمر على مغناطيسيات لالتقاط أى مواد معدنية أو «بُرادة» منها، وبعدها مرحلة الغسيل، ثم تخليص مصاص القصب من المياه، ليدخل بعدها ما يُعرف بمحطة الهضم، من خلال البخار، وبعدها تتم عملية تنعيم الألياف لتصبح أشبه بالبودر».
فى الطريق، كان جانب من العمال يجلسون بلا عمل والملل واضح على وجوههم، بعد أن سئموا توقف الإنتاج بالمصنع، رغم أنهم يتقاضون الآن مرتباتهم كاملة، حسبما يشير مدير الإنتاج، الذى واصل شرح مراحل إنتاج خشب الإم دى إف، موضحاً أن الألياف بعد ذلك تدخل ما يُعرف بعنبر الكيماويات والمواد اللاصقة، حيث يتم حقنها بالغراء، وبعدها تدخل على خط الإنتاج ثم ماكينة التشكيل، وبعدها الكبس، ليخرج الخشب فى شكل مسطحات يتم تقطيعها لألواح».
"بركات": "ما اشتغلناش السنة دى غير شهرين"
هنا يختم المهندس بركات كلامه قائلاً: «إحنا عندنا كل عوامل نجاح الصناعة موجودة، كمية إنتاج موجودة، وجودة موجودة، ما عدا مسألة ارتفاع أسعار تكلفة الطاقة والمواد الخام الذى يرفع تكلفة الإنتاج، فى مقابل إغراق السوق بالمنتج الأجنبى الذى يباع بأقل من أسعارنا بقرابة 1000 جنيه فى المتر المكعب.
العضو المنتدب: نطالب بحماية المنتج الوطنى ودعم المصنع مراعاة للبعد الاجتماعى للصعيد
فى مكتبه بمقر الشركة بدشنا، أخذ العضو المنتدب الفنى للشركة، المهندس محمد عز، يستعيد تاريخ المصنع، ويوضح مزيداً من الأسباب التى أدت إلى وضعه الحالى، مشيراً إلى أنه المصنع الأول من نوعه والوحيد بالشرق الأوسط، بعد أن تعثر مصنع شبيه فى إسرائيل وتم إغلاقه. وقد صدر قرار إنشائه سنة 96، وبدأ إنتاجه الفعلى 2001، ومن وقتها حتى 2016 ظل يحقق مكاسب ويصدّر جزءاً من إنتاجه لعدد من الدول العربية والأفريقية.
"عز": "حققنا مكاسب والمشاكل بدأت 2016"
غير أنه بداية من 2016، وفقاً لـ«عز»، بدأت مشاكل إغراق السوق المحلية بأخشاب الإم دى إف المستوردة، التى ملأت أسواقنا بأسعار أقل من التكلفة الفعلية لدينا، وربما أيضاً بمواصفات أقل بكثير من مواصفاتنا القياسية المصرية التى يلتزم بها المصنع، وربما تفاقمت المشكلة بعد غلق بعض الأسواق العالمية التى كانت تستوعب منتج «الإم دى إف» العالمى، مثل سوريا وإيران والعراق، نتيجة للظروف السياسية، فأصبح الإنتاج الذى كان يذهب لهم يأتى إلينا، وطبعاً أى حد بينتج منتج بيبقى عايز يصرّفه بأى طريقة، بحسب «عز».
وفى المقابل «بدأت تكلفة الإنتاج الفعلية لدينا تزيد بسبب القرارات السيادية برفع الدعم عن الطاقة، وارتباط سعر مادة (مصاص القصب) الخام المستخدمة فى الصناعة، بالارتفاعات فى أسعار الطاقة، لأنها كانت تُستعمل أساساً فى توليد الطاقة فى شركات السكر من خلال حرقها، وهو ما جعل شركات السكر تربط أسعار توريدها لنا بأسعار مصادر الطاقة الأخرى، لترتفع كلما ارتفعت أسعار الوقود، هذا فضلاً عن أن تعويم الدولار أثر أيضاً على أسعار المواد الخام الأخرى المستخدمة».
وإزاء ذلك «حاول المصنع حل مشكلة ارتفاع سعر المادة الخام وتكلفة الإنتاج بشكل عام، فبداية من 2015 بدأ قسم البحوث والتطوير بالشركة، بالبحث عن بدائل أرخص لمصاص القصب، لا سيما أن الكميات المتاحة منها لا توفر للمصنع العمل بكامل طاقته الإنتاجية، التى تصل إلى حوالى 90 ألف متر مكعب من (الإم دى إف)، لا ينتج منها سوى قرابة 60 ألف متر مكعب فقط، وكان من بين هذه البدائل، حطب الذرة الرفيعة، وجريد النخيل، وناتج تقليم أشجار الموالح، بالإضافة لأشجار السيسبان».
وبالنسبة لـ«حطب الذرة الرفيعة»، ولأن «كمياته فى المنطقة المحيطة محدودة، ويتركز بكثافة عالية جداً فى محافظات سوهاج وأسيوط والمنيا»، كما يضيف العضو المنتدب للشركة: «لجأنا لمحافظة سوهاج وتقدمنا قبل عامين بطلب لتخصيص قطعة أرض لنا بنظام حق الانتفاع لجمع حطب الذرة وفرمه وكبسه هناك وذلك لتقليل تكلفة النقل، وقدمنا دراسة جدوى وقلنا إن الشركة ستتكفل بتوصيل المرافق، وحتى الآن لم يتم البت فى طلبنا رغم مرور عامين».
وإلى جانب «حطب الذرة»، أثبتت دراسات الشركة أن جريد النخيل من البدائل المناسبة أيضاً للمادة الخام، ويمكن الاعتماد عليه فى الإنتاج، «لكن نظراً لأن النخيل يتمركز فى محافظتَى أسوان والوادى الجديد، البعيدتين عن قنا، وتكلفة النقل من هناك مرتفعة جداً، اقترحنا أيضاً على المحافظتين أن نحصل على قطعة أرض لجمع وفرم وكبس جريد ومخلفات النخيل بشكل عام، لتقليل تكلفة نقلها، ومفيش حاجة اتعملت لحد دلوقتى، رغم إن الكلام ده كان من سنة».
«أما بالنسبة لمفروم تقليم أشجار الموالح فقد تعاقد المصنع مع إحدى شركات تدوير المخلفات الزراعية لتوريده، حيث كانت تجمع ناتج تقليم أشجار الموالح وتفرمه وتنقله لنا، وفى البداية كانت أسعارهم مناسبة، لكن مع ارتفاع أسعار الطاقة رفعت الشركة تكلفة النقل، وبالتالى أصبح استعمال هذا البديل مكلفاً وغير مُجدٍ».
ولم يبقَ من بين البدائل المتاحة للمادة الخام، حسبما يشير المهندس «عز»، غير أشجار السيسبان، وهو من محاصيل الغابات الشجرية السريعة التى يمكن حصدها من عمر يتراوح بين سنة إلى سنة ونصف، وأخذنا 300 فدان بنظام حق الانتفاع لزراعتها على مياه الصرف الصحى المعالج، فى منطقة بـ«قوص» تبعد عنا حوالى 70 كيلومتراً، وجهزناها للزراعة، وزرعنا منها العام الماضى أول 70 فداناً وحصدناها، وكانت النتائج جيدة رغم أنها كانت التجربة الأولى، وأكملنا زراعة بقية المساحة حتى وصلنا الآن لحوالى 200 فدان.
ونظراً لأنه حتى لو اكتمل زراعة الـ300 فدان، فإن الناتج لن يكون كافياً لتشغيل المصنع لأكثر من شهرين، طلب المصنع من محافظة قنا أن تخصص له أراضى تابعة لمحطة الصرف الصحى فى دشنا، وصدر بالفعل قرار تخصيص بـ800 فدان، فى منطقة تبعد عنه بحوالى 15 كيلومتراً، مقابل 70 ألف جنيه للفدان، وبعد مفاوضات حول كيفية الدفع، لا سيما مع ارتفاع المبلغ الإجمالى لثمن الأرض (60 مليون جنيه)، وافقت المحافظة على أن يدفع المصنع الربع مقدماً وتقسيط الباقى على 10 سنوات، لكن أدى تدهور أوضاع الشركة لعدم الوفاء بهذا الاتفاق.
وفى محاولة أخرى لتقليل تكلفة الإنتاج، بحثت الشركة إمكانية تقليل تكلفة بقية المواد الخام المساعدة، ومن بينها المادة اللاصقة أو الغراء، وهى من العناصر مرتفعة التكلفة لارتباطها بالدولار، وتم التوصل إلى أن أفضل حل هو إنشاء مصنع غراء، ووجدنا أن تكلفته تقترب من 50 مليون جنيه، كما أجرى المصنع دراسة أخرى لتحديث خطوط الإنتاج لديه، لإحداث وفر فى تكلفة الإنتاج بحوالى 15%، ومرة أخرى اصطدم المصنع بمشكلة السيولة، ولم يجد ممولين، حتى من البنوك الوطنية التى تساهم بنسب فى المصنع.
ويعترف المهندس «عز» أن ميزانية المصنع وتحقيقه لخسائر فى الأعوام الأخيرة كانا سبباً وراء رفض البنوك توفير التمويل اللازم، إلا أنه يرى أيضاً أن الشركات أو المصانع المبنية فى الصعيد ينبغى مراعاة «البعد الاجتماعى» لها، وليس الاقتصادى فقط، قائلاً: «البعد الاجتماعى مهم جداً جداً فى الصعيد، لأن مفيش مصادر رزق وعمل غير الشركات المنشأة هنا، والمفروض نزودها، مش ندمرها، لأن طبيعة البلد وجغرافيته مناسبة جداً جداً لنمو التطرف والشر، وإذا لم يتم توفير فرص عمل لهم وتغيير ثقافتهم سيكون من السهل جداً جذبهم لهذا الطريق بما فيه تجارة المخدرات والسلاح».
ويستعيد العضو المنتدب تاريخ إنشاء المصانع التابعة لشركة السكر، مشيراً إلى أن عدداً منها جاء بشكل أساسى مراعاة «للبعد الاجتماعى» للصعيد وتنميته، ويطالب بدعم الدولة لمصنعه، من خلال توفير أراضٍ بنظام حق الانتفاع لزراعة السيسبان عليها، بالإضافة لدعم المصنع مادياً بقروض لتطوير خطوط إنتاجه، فضلاً عن إنشاء «مصنع للغراء» ملحق به، وهو ما سيفتح فرصاً لأيد عاملة كثيرة، ويقلل التكلفة، فضلاً عن فرض رسوم حماية على المنتج الوطنى، بأى رسوم تراها الدولة مناسبة، على الأقل لتحقيق التوازن فى السعر بينه وبين المستورد، خاصة أن الأخير يحصل على دعم كبير من بلاده.