واهمٌ من يظن قدرته على الاستيراد بدلاً من الإنتاج لإطعام شعب قوامه يصل إلى 105 ملايين نسمة بحلول عام 2020، وآخذ فى الزيادة، مهدداً ببلوغ سقف المائة وعشرين مليوناً بحلول 2030.
وأكثر وهماً من يظن أن رفاهية الشعوب تتحقق بتحطيم معاول الإنتاج، وإحياء آليات التجارة والاستيراد والسمسرة، مع افتراض أن العمولات أسهل حصداً، وأسرع تحصيلاً من الزراعة والصناعة، وتنمية الثروة الحيوانية والداجنة والسمكية.
وخائن من يتعمد العرض غير الأمين على صانع القرار بأن «شراء العبد ولا تربيته»، عامداً بذلك ضرب أيادى المنتجين الذين يمثلون القوى الناعمة الجبارة، والسند الحقيقى لأى جدار مجتمعى، خاصة فى دولة مثل مصر، بنى شعبها ثقافته منذ آلاف السنين على مفهوم يكره «الإيد البطالة»، ويصفها بعدم الطهارة.
وما يحدث حالياً فى كتاب تنمية الثروة الحيوانية الذى هو عماد برنامج أى دولة، سواء كانت نامية أو متقدمة، يوجب دق نواقيس الخطر قرب مسامع صانع القرار، الذى يستهدف فى المقام الأول تحقيق الأمن الغذائى لمواطنى الدولة، كما يضع خطط نموها نصب عينيه، ويسارع الزمن لاستباق الجداول الزمنية، فى تحد صريح أمام ذاته وأمام العالم.
وليست بعيدة على مصر تلك التجارب التى مرت بها بلدان كانت تتعلق بأحبال خط الستر، مثل البرازيل، قبل أن يرفعها ماسح الأحذية الشهير «لولا دا سيلفا»، حينما اختير فيها كرئيس دولة مطلع يناير 2003، لتصعد فى عهده إلى مرتبة سابع أقوى اقتصاد فى العالم، من بوابة الزراعة والصناعات القائمة عليها، قبل أن تترنح ثانية بعده، لأسباب تتعلق بإدارة اقتصاداتها مرة أخرى وفق برامج السمسرة.
وبرغم ما حدث للبرازيل من تراجع على خط الستر، ظلت صناعة الدواجن وحلقاتها المتكاملة، من زراعة الذرة والصويا، أهم ما تفتخر به الدولة حتى الآن، إذ لا تغرب الشمس عنها يومياً إلا بتصدير نحو 30 مليون دجاجة إلى كل دول العالم، ولتتبوأ درجة تنافسية عالمية فى مجال تصدير الذرة الصفراء والصويا، المكونين الرئيسيين لصناعة الأعلاف.
وبقراءة ما يرد من تقارير اقتصادية من الغرفة التجارية العربية البرازيلية، نجد أن واردات مصر وحدها من الدواجن واللحوم البرازيلية، بلغت خلال الشهور الثمانية الأولى من العام الجارى 2019، نحو 3 مليارات جنيه، وتحديداً 99 مليون دولار، منها 56.4 مليون دولار للدواجن (42.6 ألف طن)، و119.34 ألف دولار للحوم (346.1 ألف طن).
هذه المليارات الثلاثة من الجنيهات المصرية كافية لو تم إنفاقها مرة واحدة كل خمسة أعوام، لتقوية عصب صناعة الثروة الحيوانية مجتمعة فى مصر، لدعم المنتجين فنياً ورقابياً، وذلك برفع كفاءة صناعة المصل واللقاح فى مؤسساتنا الحكومية، خاصة معهد العباسية، ومعمله المرجعى للرقابة على المصل واللقاح، والمعمل المرجعى للرقابة البيطرية على الإنتاج الداجنى، التابع لمعهد بحوث صحة الحيوان.
وإلى جانب الدعم المالى لرفع تكنولوجيا الصناعة، وتكنيك منظومة تتبع حلقات الصناعة، من الكتكوت إلى المصل واللقاح، إلى الأدوية البيطرية، ثم إلى صناعة الأعلاف، يجب تصوير الواقع بعيون فنية خبيرة أمام عينى صانع القرار، وذلك لإتاحة فرصة المقارنة بين الواقع المؤلم والصورة الوردية التى تعرضها الوزارة المعنية، مستعينة بعرَض مرضى أدى إلى هبوط سعر اللحوم الحمراء إلى 70 جنيهاً للكيلو، وسعر كيلو الدواجن الحية إلى 17 جنيهاً، وكلاهما يقل عن سعر تكلفة الإنتاج.
ولحل مشاكل الثروة الحيوانية فى مصر يجب تشكيل فريق خبير متمرس فى صناعة الدواجن وتربية الماشية والأسماك فى كل حلقاتها، سواء التربية أو مكافحة الأوبئة، وذلك لرسم خريطة الأوبئة بوضوح، وتنفيذ آليات الشق الرقابى الحاسم على كل حلقات الصناعة، للتتبع وتنفيذ اشتراطات الأمان الحيوى (الوقاية قبل العلاج).
وحتى لا تصبح وجبة البروتين الشعبية، خاصة الدواجن، مجرد ملف ترتبه الأهواء العنترية لقيادات وزارة الزراعة، يجب دعم هذه الصناعة بعقول فنية خبيرة فى مجالات التربية، ومكافحة الأوبئة، وتضم: باحثين، ومعمليين، ومربين، ومشرفين بيطريين، لمشاركة المسئول الحكومى المكلف بإدارة الملف السياسى فى الوزارة التى «نامت فى الخدمة طوعاً».
ودون المصارحة والمكاشفة عن واقع صناعة البروتين فى مصر، لا أمل فى تطويرها، بعد ما حدث من آثار مدمرة لقطعان الماشية بسبب وبائى الجلد العقدى، والحمى القلاعية، وعدم نجاح اللقاحات التى وفرتها الوزارة فى الوقاية، والاستئثار بالقرار الإدارى، ورفض الرأى الفنى، إضافة إلى ضعف القدرات المتاحة للمربين فى مجال العلاج، للدرجة التى أصبحت فيها أسعار الماشية محل القفشات، حتى قيل إن (الـ 3 بـ 10)، أى إن ثلاثة رؤوس ماشية بعشرة آلاف جنيه.
وقد يتصور البعض أن هبوط سعر كيلو اللحم إلى 70 و80 جنيهاً أمر إيجابى، ومؤشر رفاهية معيشى للمواطنين، وقد تتسلح وزارة الزراعة بهذه الصورة المزيفة، حين العرض غير الأمين على صانع القرار، لكن هذه الأسعار تجسدت فى الحقيقة «فلساً» مصدره الخسارة الفادحة التى تلقاها المربون فى قطعانهم، فبدلاً من بيع البقرة العشار بعشرة آلاف جنيه، يفضلون ذبحها بعيداً عن عيون الرقابة، لجنى بضعة آلاف جنيه إضافية.
هذه الموجة الانتحارية التى تسببت فيها الأمراض، مع ارتفاع أسعار الأعلاف، تسبب فى إبادة الأمهات الولودة، لتختفى عجول التربية خلال عام على الأكثر، كما ستتسبب أمراض الشتاء المقبل فى خروج معظم مربى الدواجن من سوق التسمين، ليصبح البروتين الأبيض والأحمر مجرد كبسولات مستوردة على أرفف الصيدليات إلى جانب الأدوية البشرية.