فى أكتوبر 2018، وفى كلمته أمام «الإيباك» بواشنطن، تحدّث بنيامين نيتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق، عن علاقات إسرائيل بدول العالم وتوغلها فيها بدبلوماسيتها المغلفة بالاقتصاد والبحث العلمى وعلاقات حل مشكلات المياه وتقنيات الزراعة. كان نيتنياهو يتحدث بثقة، مروجاً عن إسرائيل القوية التى تحمى العالم لا من يقطن بها فقط!؟ يومها عرض نيتنياهو لخريطة العالم وبعض من دولها مكسو باللون الأزرق -لون نجمة داوود الزرقاء على العلم الإسرائيلى- مؤكداً أن إسرائيل تخطت الحدود وكسرت الحواجز وأنها ستعزل مَن نادى بعزلها يوماً ما.
القارئ للتاريخ القريب يعلم أن العرب، وعلى رأسهم الرئيس جمال عبدالناصر، كانوا من تحدّث عن عزل إسرائيل بمقاطعتنا لها وإقناعنا دولاً من العالم بمقاطعتها. ولكننا لم نستطع عزل إسرائيل التى توغلت فى العالم بعلاقاتها حتى فى عالمنا العربى. والقارئ للتاريخ وللواقع أيضاً.. يدرك أن ما يحدث فى المنطقة منذ العام 2003 وحتى يومنا هذا هو استمرار لسياسة إسرائيل فى تفتيت عالم كان يسمى عربياً، بحصار جيوشه وإهدار موارده ونشر ميليشيات مسلحة فى كل بلاده لإنهاك قواه.
أتوقف، يا سادة، عند بلادى، لا لتحيز ولكن لفهم لتاريخها وواقعها وما يحيط به. أتأمل إصرارنا على المواجهة بعزم لا يلين، وفهم لتفاصيل مشهد مرتبك نسير فيه على خيط رفيع. أنظر إلى حدود الجغرافيا المميزة لبلادى منذ بدء الخليقة، فأراها وقد أصبحت مهدداً لأمن حدودنا الاستراتيجية والإقليمية. فحدُّنا الاستراتيجى فى الشمال الشرقى، ومنذ عهد رمسيس الثانى فى سوريا والعراق وفلسطين، حاله لا يسر. وحدُّنا الاستراتيجى فى الجنوب الممتد لآخر دول منابع النيل توغلت فيه قوى ليس من مصلحتها عودتنا لما غبنا عنه فى سنوات سابقة. هذا غير إرهاب وميليشيات يظنها البعض طوال الوقت عربية فقط، دون تبصر بأماكن وجودها فى تشاد والنيجر والصومال والسودان وموريتانيا. ثم تتكالب الأحداث فى الغرب وتأمينه لتدرك خطورة الحشد الذى يسعى لتهديدك بتلاحمه فى تونس التى يحكمها إخوان والجزائر التى لم يتضح مصيرها والغرب الليبى المتخم بميليشيات الإرهاب وفقاً لتصنيف العالم كله، والحضور التركى الداعم لحكومة السراج الحاضنة لميليشيات السلاح المهددة لأمن المنطقة. أشاهد الصمت الدولى على تحول ليبيا إلى النموذج السورى مع اختلاف التفاصيل. ساحة لصراع على النفوذ بين أقطاب ومصالح العالم، روسيا وفرنسا من جانب، وأمريكا وإيطاليا من جانب آخر، وبينهما سعى مصرى حثيث تدعمه الإمارات لحماية الدولة ومؤسساتها، حرصاً على الشعب الليبى من جانب، وحماية لحدودنا الغربية المفتوحة على صحراء تسكنها الفوضى على مسافة ما يزيد على 1200 كم من جانب آخر.
أنظر إلى حدِّنا الشمالى على البحر المتوسط وصراع الطاقة المستعر الذى لم يتجاوز حد المناوشات حتى هذه اللحظة، ولكنها تحركات تثير التوتر وتنبئ بمستقبل مشتبك. ثروة من غاز لم يتمنوا حصولنا عليها. فاجأناهم بترسيم الحدود بشكل نهائى مع قبرص واليونان فى 2015، أعلنا «ظُهر» فى نفس العام، حققنا اكتفاء فى غضون عامين، نسعى للتصدير فى خلال أشهر. لم نكتفِ بهذا فقط، بل أعلنا استعدادنا تسييل الغاز لمن يريد. أفسدنا اتفاقية تركيا مع إسرائيل بتصدير الغاز لأوروبا عبر سوريا التى ظنوا سقوطها عام 2016. تفشل تركيا فى التنقيب فى شرق المتوسط، فتعقد بقانون البلطجة ترسيماً للحدود مع ليبيا! متجاهلة قبرص واليونان وقانون البحار الدولى المحدد للمياه الإقليمية للدول بـ12 ميلاً بحرياً، وما عداها منطقة اقتصادية لدول العالم.
هكذا تحيا بلادى بين سعى لنهضة وعزم لحماية تقاوم بهما كل أفعال الحصار الساعين له.. تدرك مؤامرات الخارج وخيانة بعض الداخل، ولكن ليس أمامها سوى كسر الحصار.