سورة السجدة تحدثنا حديثاً عجيباً عن أكلنا الطعام فى الدنيا فتشير إلى أن زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون؟! وعجيب أن تشير الآية إلى عدم إبصارنا نزول الماء من السماء إلى الأرض الجرز أى الجرداء فنخرج به زرعاً، ومعلوم أن البصر تقوم به العين البشرية التى هى مادية منظورة وملموسة وتشغل فراغاً بحجمها المعهود، وهذه هى صفات المادية الثلاث أنك ترى الشجرة فهى موجودة وأنك تلمسها فهى محسوسة وأنك تحدد حجمها وطولها وعرضها فهى تشغل حيزاً من الأرض والهواء، فكيف ترى النفس وهى شىء غير منظور ولا محسوس وليس له حجم؟ إن الآية هنا تختزل الإنسان فى النفس، وهو ما يؤكد صحة النظرة إلى النفس باعتبارها هى الكائن الدائم فى الغيب قبل نزولنا الدنيا، ثم ننزل الدنيا فنلبس مؤقتاً جسدنا الأرضى تحركه طاقة بطارية مؤقتة غير منظورة أيضاً من الروح والنفس هى الكائن الأصلى المستمر قبل الأرض وبعد الأرض ويوم العرض، كما علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم هى الكائن الذى يتخلص من كلا المكونين الجسد والبطارية، أى الروح ويظل هو المستمر فى الجنة يتلذذ أو النار يتعذب.
فجاء تعبير تأكل منه أنعامهم وأنفسهم اختصاراً أن النفس فى الدنيا هى المشار إليها معاً بجسدها وروحها ونفسها أما النفس فى الآخرة هى ذاتها فقط كما خلقها الله قبل الدنيا، ولذلك تخرج وحيدة من الدنيا تاركة الجسد والروح، فالآية تحدد الله يتوفى الأنفس.
وتكاد سورة السجدة من أولها إلى آخرها تجيب عن سؤال واحد فى الآية رقم ١٠ «وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ»! فقد تعجب البشر من سذاجتهم أن أجسادهم التى بليت وتفرقت تراباً وعظاماً فى تراب الأرض تتجمع مرة أخرى فى شكل جديد كإنسان كامل شحماً ولحماً أو نفس بلا جسد! ولم يلتفت المستمعون من الكفار أن الآيات من أول سورة السجدة حتى سؤالهم هذا تتحدث عن خلق السموات والأرض وتدبير الله لأمر الكون والبشر والشجر فى السموات، فيتحقق فى الأرض، أى «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ» آية رقم ٥ ثم تلى الآيات الخاصة بخلق الإنسان نفسه حتى وفاته فى الآية ١١ «قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»، وباقى الآيات تتحدث عن نعيم الجنة أو عذاب النار، فيؤكد فى الآية ١٧ فلا تعلم نفس أى من النفوس التى جاءت إلى الآخرة بالموت الدنيوى «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». وتعبير قرة أعين يشمل المعنيين المادى والجوازى، فنحن سنرى بأعيننا كل شىء فى الآخرة وكأنها عين الجسد فى الدنيا، وهذا مايؤكد أن النفس غير المنظورة تلبس وتسكن فى كل عضو وخلية من الجسد البشرية، وحين يفنى الجسد تراباً تبقى هى كاملة بكل أعضائها ترى وتلمس وتتذوق وتروح وتأتى وتحب حور العين وترتدى سندساً واستبرق، فهى نسخة كاملة من جسد الدنيا ستعيش معيشة كاملة بكافة حواس الجسد فى الآخرة ولكن بلا جسد!
وقد صادف الحديث عن وصف الأرض الجديدة فى الآخرة عدة إشارات لا تخفى على أحد، وتؤكد أن الدنيا التى نعيشها ستختفى وتظهر لنا الدنيا الجديدة المسماة الآخرة، فيها أرض غير الأرض ولها علامات من أبرزها المكان البعيد والمكان القريب.
وصدق الله إذ قال «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ»، آية رقم ٤٨ سورة إبراهيم، حيث حاول القرآن الكريم فى عدة آيات وصف معالم الأرض الجديدة والسموات الجديدة ولكن كثيراً منا يمر على هذه الآيات القرآنية مر السحاب «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ».