يبدو أن مشكلة مشاركة المرأة السياسية ليست فى الدساتير ولا فى القوانين، ولكن المشكلة تكمن فى العقول التى يسيطر عليها الفكر الذكورى الذى يمسك بمقاليد المجتمع والسياسة والاقتصاد والدين والعلم والفلسفة، ويهمش الأنثى ويضعها فى مرتبة دون الرجل، فهو العقل وهى العاطفة، وهو القوة وهى الضعف، وهو الإدارة والنظام وهى التسيب والعشوائية، ولذا فهو هو الحاكم وصاحب الأمر والنهى فى القرية والقبيلة والحزب والنقابة ومؤسسات الدولة، والعلاقة الحاكمة بينهما هى علاقة السيد والتابع.
والغريب أن هذا النمط من التفكير الذكورى لا يفكر به الرجال فقط بل يفكر به أيضاً قاسم كبير من النساء أيضاً؛ حيث لا تزال المرأة فى قطاعات عديدة من المجتمع تفضل هذا الوضع (ظل الرجل ورعايته)، كما تفضل أن يقود هو كل معارك الحياة العامة. ويبدو هذا وضعاً مستقراً فى التقاليد والأعراف الريفية والبدوية التى تزال تعمل وتحكم مجتمع الحداثة المزيفة!
ذلك ما يظهر على السطح؛ فالرجال يحكمون فى الظاهر، أما فى الباطن فكثير من النساء يحكمن من وراء الكواليس! لكن -كما يقولون- لنا الظاهر، وهذا الظاهر فى التاريخ السابق على ثورة 25 يناير -كما أوضحنا فى المقال السابق- يكشف عن أن مشاركة المرأة فى الحياة السياسية مشاركة فعالة ومؤثرة لم تكن تخضع لنوع من التراكم التاريخى، بل جاءت على شكل طفرات استثنائية، ثم سرعان ما يحدث تراجع، ويعود الوضع إلى ما كان عليه. ولقد وجدنا هذا فى كل اللحظات التاريخية التى كانت تحقق فيها المرأة إنجازات وتثبت وجودها السياسى، لكن تفاعل الظروف والأوضاع يحول دون تحول هذا الإنجاز إلى وضع قابل للبناء عليه. فلم يحدث غالبا أىّ نوع من التراكم التاريخى؛ حيث كان إثبات المرأة لوجودها السياسى فى الماضى مرتبطاً دوماً بشخصيات نسائية كاريزمية، ولم يكن مرتبطاً بحركة نسائية عامة وتحول حقيقى فى بنية وتكوين المجتمع.
وبعد ثورة 25 يناير ظهر حضور قوى للمرأة فى الشوارع، وعلى شاشات التليفزيون، وفى المشاركة فى كل الاستفتاءات والانتخابات التى تمت. ومع أنه قد تحققت المساواة بين الرجل والمرأة فى الحقوق السياسية فى الدساتير الصادرة قبل الثورة وبعدها، وعلى الرغم من كثرة القوانين التى صدرت لصالح مساواة المرأة بالرجل فى مجتمعنا، وحقها فى ممارسة حقوقها المختلفة (السياسية والاقتصادية... إلخ)، وإزالة كل أشكال التمييز، فإن السلطة الموازية فى المجتمع لم تضمن حصول المرأة بعد على كل حقوقها؛ والمشاركة الحقيقية للمرأة فى العمل السياسى لم تزل محدودة، سواء قيست بأعداد المرشحات للمجالس المحلية والمجالس التشريعية بواسطة مختلف الأحزاب السياسية مقارنة بأعداد الرجال، أو قيست بمدى مشاركة المرأة فى عضوية الهيئات القيادية للأحزاب أو للنقابات المهنية أو العمالية أو غير ذلك.
لكن الفترة المعاصرة تشهد حركة نسائية جماعية. ومع أن هذه الحركة قوية وتعمل جاهدة على إحداث تغييرات، فإنها لم تتراكم بعد تراكماً كمياً يؤدى إلى إحداث تغير كيفى. وهى فى كل الأحوال أفضل من الطفرات التى كانت مرتبطة بشخصيات كاريزمية؛ لأنها تسير على نمط جماعى تراكمى يعمل على إحداث تغييرات فى بنية المجتمع نفسه؛ ومن المعلوم أن التغييرات التى تنبع من البنية القاعدية تكون أكثر فاعلية واستمراراً من التغييرات الآتية من القمة.
ولذا فإن أفق التغيير قد ازداد اتساعاً؛ حيث زاد دور المنظمات غير الحكومية التى تعمل فى مجال النشاط النسائى وتقوم بالتوعية بأهمية المشاركة السياسية للمرأة لتنمية المجتمع فى مجموعه ولحل القضايا الخاصة بالمرأة. وتنشط الجمعيات الأهلية النسائية بصفة خاصة فى حث السيدات على التأكد من قيد أسمائهن فى سجلات قيد الناخبين وحثهنّ على الحصول على بطاقتهن الانتخابية وممارسة الحق فى الاختيار والانتخاب على كل المستويات. وتدخلت الدولة تشريعياً أكثر من مرة لصالح المرأة، فضلاً عن تولى المرأة العديد من الحقائب الوزارية، والمناصب القيادية فى عدد من مؤسسات الدولة، وإن كانت لا تزال ضئيلة بالمقارنة مع الرجال. لكن تقدم المرأة فى المجالات الأخرى قد شهد تحولاً حقيقياً؛ مثل مجالات الإعلام والصحة، أما فى التعليم فالطفرة كبيرة، وعلى سبيل المثال فإن الوضع فى جامعة القاهرة يشير إلى أن نسبة الطالبات تفوق نسبة الطلبة، إذ تصل إلى 53٪، وتصل نسبة أعضاء هيئة التدريس من النساء إلى 37٪.
لكن التفاعل بين هذه المجالات والحياة السياسية العامة لم يحدث بعد، بحيث ينعكس على حجم مشاركة المرأة السياسية على مستوى البرلمان والحكومة والنقابات، وكأن كل مجال من هذه المجالات يشكل جزيرة منعزلة، أو كأن تقدم المرأة داخل تلك المجالات مرتبط بعدم فاعليتها السياسية!
والواقع الذى نصبو إليه هو أن تصل مشاركة المرأة فى الحياة السياسية إلى أقصى فاعلية لها، بحيث لا يكون معيار الانتخاب أو الوظائف القيادية ذا علاقة من قريب أو بعيد بمسألة الأنوثة والذكورة، إنما يخضع لمعيار واحد لا ثانى له وهو «الكفاءة».
ولعلى لست بحاجة للتأكيد على أن وضع المرأة السياسى غير منعزل عن وضعها الاقتصادى والاجتماعى، كما أنه غير منعزل عن التنمية بشكل عام، لارتباطه باستغلال أو هدر الموارد البشرية. وهذا ما أكد عليه تقرير التنمية البشرية إذ جاء فيه أن «النمو الأبكم.. يكون نمواً يعطى المرأة دوراً ضئيلاً فى إدارة الاقتصاد وتوجيهه».
فالتنمية البشرية التى تتهمش فيها المرأة تفتقد إلى أهم ركن من أركانها، وهو «الإنصاف». وكلنا أمل أن تحقق حكومة مصر الجديدة الأهداف المشتركة لمبادئ حقوق الإنسان عامة وليس المرأة فقط.