السباق على كسب الأصدقاء والحلفاء هو جوهر العمل الدبلوماسى، وتزداد أهميته فى اللحظات الحرجة التى تمر بها الدول فى علاقاتها مع دول أخرى، نتيجة أزمة أو تباعد كبير فى المواقف تجاه قضايا حيوية ومصيرية فى آن واحد. فى الأسابيع القليلة الماضية حدث هذا السباق بين مصر وإثيوبيا، تمثل فى قيام وزير الخارجية سامح شكرى بزيارة عدد من الدول العربية حاملاً رسائل من الرئيس السيسى لقادة تلك الدول، يشرح فيها موقف مصر إزاء التعنت الإثيوبى ورفض أديس أبابا التوقيع على الاتفاق الذى تم التوصل إليه بعد معاناة ومفاوضات شاقة طوال السنوات الأربع الماضية، وبعد مشاركة الولايات المتحدة والبنك الدولى كمراقبين، فى أربع جولات جرت فى واشنطن برعاية وزير الخزانة الأمريكى، وهو الاتفاق الذى وقعت عليه مصر مبدئياً، باعتباره منصفاً وعادلاً ويحقق مصالح الدول الثلاث، ويحقق الهدف الأكبر وهو بناء نموذج تعاونى وتكاملى يثبت الاستقرار ويدفع بالتنمية وعلاقات الشعوب إلى الأمام.
وفى السياق ذاته كانت جولة شكرى فى فرنسا وبلجيكا ولقاءاته مع ممثل المفوضية الأوروبية، لحث الجميع على ممارسة ضغوط على الجانب الإثيوبى لإقناعه بالتوقيع على الاتفاق، وعدم البدء بملء السد قبل الالتزام بالتوقيع، وهو شرط أقره الاتفاق الثلاثى الموقع فى مارس 2015. ويشمل الأمر جولة لعدد من الدول الأفريقية لشرح وجهة النظر المصرية ووضع الحقائق أمام قادة هذه الدول، وعدم ترك الساحة الأفريقية يتحرك فيها المبعوثون الإثيوبيون يضللون فيها الشعوب بمعلومات غير دقيقة وشعارات زائفة، ترسخ ما يوصف بحق إثيوبيا فى بناء السد، وفى استغلال مياه النهر دون الالتفات لحقوق الآخرين فى الحياة، وضرورة مواصلة التفاوض من أجل الاتفاق المنصف والعادل للموارد العابرة للحدود، ما يعنى وصم الاتفاق الذى تم التفاوض بشأنه فى واشنطن بأنه غير عادل وغير منصف.
فى الجولات التى قام عدد من المبعوثين الإثيوبيين، أبرزهم رئيسة البلاد الحالية والرئيس السابق ووزير الخارجية، إلى كل من دول أوروبية وأوغندا وكينيا ووفد عسكرى إلى السودان. وحسب ما نشر فى الصحف الإثيوبية ذاتها، فقد جاءت تأكيدات القادة الأفارقة على مبدأين؛ وهما الاستغلال المنصف والعادل والمعقول والمستدام لمياه النهر، وأن يتم حل المشكلة تحت العباءة الأفريقية. أما رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقى فقد أشار بعد لقائه مع وزير الخارجية الإثيوبى إلى أن التفاوض بشأن سد النهضة يجب أن يتوصل إلى صفقة عادلة يستفيد منها جميع أصحاب المصلحة، ما يحتاج إلى توضيح مصرى لا لبس فيه بأن اتفاق واشنطن يحقق تلك المعايير، ولكن إثيوبيا ترفضه لأسباب تعود إلى استراتيجيتها فى التحكم الكامل فى مياه النيل، وهو ما لن تقبله مصر تحت أى ظرف.
وفى الواقع فإن المواقف التى عبر عنها قادة أفارقة تدعم الاتفاق المنصف والعادل والمستدام لمياه النهر، تعد أرضية مناسبة لكسب مؤيدين للموقف المصرى بعد شرحه وبيان توافقه شكلاً ومضموناً مع المبادئ المعمول بها فى القانون الدولى وتمت صياغتها فى اتفاق واشنطن، ومن ثم مطالبتهم بلعب دور مباشر وحيوى فى إقناع أديس أبابا بالتوقيع على الاتفاق الذى تم التوصل إليه، باعتباره وثيقة تنهى الأزمة وتبنى واقعاً جديداً يدعم التنمية والاستقرار فى منطقة حوض النيل.
لكن تبقى نقطة مهمة، تتعلق بالحلول تحت العباءة الأفريقية، وهى عبارة تحمل معانى متعددة، منها أن تبدأ جولة مفاوضات جديدة برعاية أفريقية من دولة أو عدة دول أو بتفويض من الاتحاد الأفريقى، وهو ما تدفع إليه إثيوبيا باعتباره يحقق لها عدة أهداف؛ منها أولاً التخلى التام عن نتائج المفاوضات التى جرت فى واشنطن، وثانياً البدء من جديد للتفاوض وفق صيغة أفريقية شكلاً تؤدى إلى مزيد من استهلاك الوقت والهروب من أى التزامات تجاه دولتى المصب، بما يمكن استغلاله فى إنهاء البناء والبدء فى الملء المنفرد بدون أى ضوابط قانونية وعملية تقتضيها حالات إنشاء السدود على الأنهار العابرة لحدود عدة دول، وبذلك تصبح الدعوة إلى المظلة الأفريقية مجرد فرصة أخرى لإثيوبيا لإضاعة الوقت، وليس من أجل التوصل إلى اتفاقات منصفة وعادلة كما تدعى الدعاية الإثيوبية.
وربما ثالثاً، وهو الأكثر ترجيحاً، أن الدعوة إلى مفاوضات برعاية أفريقية، تتحفظ عليها مصر تهدف بالأساس إلى دق إسفين بين مصر والدول الأفريقية، لا سيما دول حوض النيل ودول أفريقية أخرى رئيسية فى القارة، وتوظيف التحفظات المصرية وتصويرها باعتبارها رفضاً لمبدأ الحلول الأفريقية للأزمات الأفريقية، وأنها تعبير عن تعالٍ مصرى على أفريقيا. وفى الحقيقة يزخر الإعلام الإثيوبى بالكثير من المغالطات وتشويه المواقف المصرية، وكثيراً ما يكرر هذه المزاعم والاكاذيب موجهاً إياها إلى العمق الأفريقى، مستهدفاً بناء مظلة حماية أفريقية لمواقفه المتعنتة والرافضة مبدأى العدل والإنصاف وتكامل الحقوق والواجبات التى تعبر بحق عن الموقف المصرى.
وبناء على ما سبق يصبح الجهد المصرى مطلوباً أكثر لمواجهة تلك الأكاذيب، ليس من خلال جولة واحدة لوزير الخارجية أو أى مبعوث مصرى آخر، رغم أهمية ذلك القصوى، بل من خلال تكرار جولة تلو أخرى للعديد من البلدان الأفريقية، لإفراغ الدعاية الإثيوبية من أهدافها أولاً بأول، وترسيخ التفهم الأفريقى للموقف المصرى، ودعوة القادة الأفارقة والرأى العام الأفريقى إلى دعم الموقف المصرى المتوازن والعادل، الذى لا يتصادم إطلاقاً مع طموح إثيوبيا فى التنمية من جانب، ويحفظ حياة 100 مليون مصرى من جانب آخر، ولا يتجاهل حق السودان فى موارده المائية.
إنها مهمة صعبة ولكن ليست مستحيلة، وتتطلب تضافر كل أجهزة الدولة والمجتمع المدنى والأزهر الشريف والكنيسة الأرثوذكسية. وأتصور أن قيام أكثر من شخصية مصرية معروفة فى أفريقيا كالدكتور على عبدالعال وعمرو موسى وإبراهيم محلب ونبيل فهمى والسفيرة منى عمر (مع حفظ الألقاب لكل منهم) ووفود من البرلمان المصرى، ومن الأزهر والكنيسة الأرثوذكسية، وغيرهم يذهبون إلى دول يعرفونها ويقابلون قادتها ورموز برلماناتها ودبلوماسييها وقادة الرأى فيها، شارحين الموقف المصرى ومستهدفين جذب التأييد والمساندة، وناقدين أى أكاذيب دعائية، هو عمل وطنى لا غنى عنه. فمساحة المواجهة الدبلوماسية والدعائية والقانونية لا تقل أهمية عن المواجهة فى ميادين أخرى. والساحة الأفريقية مؤهلة لأن تؤيد الموقف المصرى إن استوعبت أبعاده وأدركت مضامينه التنموية والسلمية، وهما المدخلان المحببان الآن لكل أفريقى يتطلع إلى أفريقيا جديدة أكثر استقراراً وأكثر سلماً.