سألنى أحد المذيعين فى قناة فضائية أجنبية بلهجة عنيفة: هل أصبح القضاء المصرى أداة للقمع السياسى والحقوقى؟ إذ كيف تحظر إحدى المحاكم حركة شعبية ثورية كحركة «6 أبريل»، ومحكمة أخرى تقضى بأحكام إعدام للعشرات مرة واحدة؟ واستطرد قائلاً: ألا ترى أن مثل هذه الأحكام القضائية ستفتح باب العنف فى الداخل والانتقاد فى الخارج؟
الأسئلة مشروعة، وقيلت من قبل فى مناسبات سابقة، ربما أشهرها قبل عامين تقريباً وهو حكم القضاء بحبس عدد من الناشطين، ومنهم من يحمل جنسيات أجنبية فيما يعرف بقضية التمويل الأجنبى لعدد من الجمعيات التى كان بعضها بدون تصريح أصلاً، والبعض الآخر حصل على تمويل بدون علم السلطات ضارباً بعرض الحائط اللوائح المنظمة لهذا الأمر.
القول بمشروعية طرح الأسئلة أياً كانت لا يعنى إطلاقاً الاتفاق على الأرضية التى تنطلق منها، أو بمعنى آخر الفكرة الفلسفية الكامنة فى السؤال ذاته. وكل من يتعامل مع مراسلين وإعلاميين أجانب، حتى ولو كانوا يعيشون فى مصر لفترات زمنية تمتد عدة سنوات، يدرك أن المرجعية الرئيسية لهؤلاء المراسلين نابعة أساساً من المرجعية السائدة فى أوطانهم الأم، وهو ما يجعلهم يحكمون على الأشياء والتطورات المصرية، وكذلك العربية، بمنطق غربى يرى أن منظومته القيمية هى الأفضل، وأن أى شىء يخالفها هى الأدنى وتستحق إما اللوم أو الإدانة، ونادراً ما يكون هناك تفهم، أو محاولة لتفهم المنطق العام الذى يحكم التطورات سواء كانت سياسية أو مجتمعية فى بلادنا.
وأخذاً فى الاعتبار هذه المدخلات، لم تكن أسئلة المراسل الغربى مثيرة بالنسبة لى. ومن خبرة التواصل مع العديد من المراسلين الأجانب فى مصر، خاصة هؤلاء الذين يأتون إلى مصر لمدة أسبوع أو حتى شهر، تبين لى أن الكثير منهم لا يدرك طبيعة الأشياء هنا، ومعلوماتهم سطحية إلى حد كبير، وإلمامهم بالثقافة المصرية لا يزيد على بضع مقولات أو عبارات لا تعبر عن عمق وتعقيد المجتمع المصرى.
وعودة إلى التساؤل السابق ذكره، كان لا بد من التأكيد على أمرين، الأول أن ما يحكم به القاضى هو القانون وما يطرح أمامه من وثائق وقرائن وأدلة. والثانى أنه حتى لو تصورنا أن هناك نسبة من التحيز لدى أحد القضاة فى أى محكمة، فهناك قاضيان آخران يمكنهما أن يُحدا من هذا التحيز إن وُجد. وفى هذا السياق فإن كثيراً من التعليقات التى صرح بها سياسيون أو ناشطون من الشباب بشأن حكم محكمة القاهرة المستعجل بحظر حركة 6 أبريل وغلق مقارها فى جميع المحافظات، كانت أقرب إلى أحكام قيمية تعكس موقفاً سياسياً سلباً أو إيجاباً، ولم تُشر إلى حيثيات الحكم وما استند إليه من أدلة ثبوت أدت إلى اقتناع القضاة بما يحكمون به. أما موقف الحركة ذاتها فقد جاء منسجماً بما هو معهود منها، وهو الرفض والتشكيك فى القضاء والدعوة إلى اعتبار الحكم كأن لم يكن، والمناداة بتنظيم فعاليات لإسقاطه. والعاقلون فقط هم من أشاروا إلى استعداد المحامين للنزال القانونى مع الحكم.
والثابت هنا أن القانون المصرى لم ينظم بعد ما يعرف بالحركات الاحتجاجية التى هى ليست حزباً وليست جمعية غير حكومية، وبالتالى فإن نشوء الحركة واستمرارها يتوقف ليس على القانون بقدر ما يتوقف على تسامح المجتمع والسلطة معها. وفى حالة حركة 6 أبريل، فإنها موجودة منذ أبريل 2008، وطوال ست سنوات شاركت فى فعاليات سياسية وجماهيرية عديدة للغاية، وعند ظهورها إلى العلن، كانت محل تأييد وترحيب الكثير من القوى السياسية والرموز الإعلامية، باعتبارها حركة احتجاج شبابية شعبية تناهض نظام مبارك، وتشجع باقى فئات المجتمع على التعبير عن رفضهم لهذا النظام. وليس هناك شك فى أن الحركة لعبت دوراً مهماً فى تحفيز وتعبئة الشباب سواء قبل 25 يناير 2011 أو بعده، وكانت لديها قدرة على تحريك الشارع السياسى سواء منفردة أو بالتعاون مع القوى السياسية والنقابية والشبابية والحزبية الأخرى من أجل هدف محدد، غالباً هو ضد السلطة الحاكمة.
وليس هناك شك أيضاً فى أن الحركة مثل أى حركة احتجاج جماهيرية تفتقر إلى التنظيم الدقيق، تكون معرضة للاختراقات الخارجية من خلال التمويل وتسرب الشخصيات ذوى المآرب الخاصة، كما تكون معرضة أيضاً للانقسام إلى جناحين أو أكثر، وغالباً ما تكون أسيرة قيادة محددة سواء كانت القيادة المؤسسة للحركة أو القيادة العملية غير الظاهرة. وفى كل هذه التحولات تظل الحركة مقبولة من المجتمع وتحصل على تسامحه طالما أن تيارها الرئيسى يعمل متناغماً مع المصالح العليا التى يحددها المجتمع والمؤسسات لنفسه، ومن ثم لا ينظر أحد إليها من المنظور القانونى طالما أنها تؤدى أدواراً إيجابية يرضى عنها جموع المواطنين.
العكس أيضاً صحيح، فحين تتكاثر التساؤلات الشعبية عن الحركة وآليات عملها ومن يمولها وقيادتها الظاهرة أو الخفية، وعلاقاتها فى الداخل وفى الخارج، يصبح على الحركة عبء كبير، وكلما كانت الأمور فى داخل الحركة شفافة ومعروفة للكافة، يستمر التسامح المجتمعى، وحين تصبح الحركة كصندوق أسود مغلق، لا يعرف أحد ماذا به، يميل المجتمع إلى القانون والقضاء لحسم المعركة. والمعروف للكافة أن 6 أبريل بقيادة أحمد ماهر، كانت عنصراً شعبياً فعالاً فى الضغط على سلطة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولعبت دوراً فى تمرير فوز الرئيس الإخوانى المعزول. وبعد انهيار حكم الإخوان، زادت تحركات الحركة ضد النظام العام وضد مؤسسات الدولة وباتت أقرب إلى النهج الفوضوى، ورغم توظيفها لشعارات ومطالب ثورتى 25 يناير و30 يونيو، فإن غموض التمويل والاتصالات الخارجية الكثيفة لرموز الحركة، أدى إلى بلورة حالة استنفار شعبى ضدها، فكان اللجوء إلى القانون هو الأداة السليمة لحسم مصير الحركة.
والقانون لا يهمه مدى شعبية الحركة أو تاريخها، بقدر ما يهمه مدى توافقها مع القوانين التى تنظم عمل القوى السياسية المنظمة. وإذا كانت هناك نصيحة صادقة لشباب 6 أبريل، والغالبية منهم وطنيون شرفاء يحبون بلدهم، فهى أن يعملوا فى الضوء، وأن ينتظموا فى صورة حزب أو جمعية يمكن محاسبتها ومراقبتها شعبياً ورسمياً، أما غير ذلك والاستمرار فى نهج إسقاط القوانين وعدم الاعتداد بالقضاء وأحكامه، فهو الفوضى بعينها التى لم ولن يقبلها أحد على الإطلاق.